رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النادى عبدالرءوف يكتب: موالد التصوف.. دين الشعب والبسطاء

جريدة الدستور

جربت تقعد فى «خدمة» على رصيف السيدة أو فى حوارى الحسين أو ساحات آل البيت، وأكلت فول نابت وعدس ودقة سمسم أو دقة فول وجبنة قديمة وعيش فلاحى وحبست وراها بالشاى، وقعدت مع الدراويش والمجاذيب؟.. شفت السعادة اللى بيعيشوها شفت القلوب الطيبة والنفوس الراضية المرضية؟.
مش هتشوف السعادة دى عند شيوخ الكبسة والبيزنس الدينى، ولا عند رواد مارينا وشرم وفنادق الخمس نجوم، فقمة المتعة لما تقعد فى أى خدمة صغيرة بين المحبين لأنه «من جالس المحبين يسعد»، فتلك متعة ميعرفهاش جيل أصحاب الفكر التكفيرى وجيل المهرجانات.. «ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا.. هم السلاطين والسادات والأمرا.. قوم رضوا بقليل فى ملابسهم.. والقوم لا تخطر الدنيا بهاجسهم.. قلوبهم خاليات من وساوسهم».
نزل أحدهم المولد لأول مرة وجد ناس طيبين جايين من الصعيد والأرياف وقاطعين مسافات طويلة من أماكن بعيدة وعاملين خدم لضيوف الست وموائد وإطعام طعام، دخل على واحد من الطيبين أصحاب الخدم وقال له: «أنت بتعمل إيه هنا؟»، رد وقاله: «بخدم ضيوف آل البيت» سأله تانى: «ومكلف نفسك ليه هتستفاد إيه؟»، فرد الراجل الطيب صاحب الخدمة: «سيدنا النبى مش بيخلى حد له جميلة عليه وعلى أهل بيته».
نعم عندنا فى الريف فى أفراحنا بنودى الواجب لأهل الفرح صينية طعام، فما بالك لو كان الواجب رايح لصاحبة الفرح رئيسة الديوان سيدتنا السيدة زينب. ومن المفاهيم الدينية الصوفية الجميلة: خدام الطبلية أفضل عند الله من خدام المصلية.. مفتاح الجنة فى المشنّة.. كثرة اللقم تذهب النقم.. أهل البيت أهل الكرم وضيفهم يكرم.. الطعام يقدم بنيّة إكرام الضيف وليس بنيّة الصدقة.. سيدنا قال: «أفشوا السلام وأطعموا الطعام»، وفى القرآن «ويطعمون الطعام على حبه».
الموالد عندنا فى الريف فى جانبها الاجتماعى، كانت عبارة عن مهرجانات للفقراء، الفلاح الفقير اللى ميقدرش يروح مارينا وشرم ولا ملاهى ولا دريم لاند، كان بيصنع فرحته بنفسه ودى من الحاجات اللى بتميز الإنسان المصرى، إنه عنده قدرة عجيبة فى رسم الضحكة وصناعة الفرحة فى عز الهموم.
بعد حصاد بعض المحاصيل المجهدة للتربة الزراعية، كان يستغل الأرض فى فترة الراحة فى إقامة المولد، ولا تخلو قرية مصرية من الأولياء، وكان مولد الولى الصالح يقام أسبوعًا: مراجيح وألعاب للأطفال ومنشدون ومداحون وفنون شعبية وتحطيب وشعراء الربابة وقصة شعبية وألوان جميلة، وفلكلور وتراث وليدا الوجدان الشعبى.
كانت صمام أمان ضد التطرف، وكنا بنشوف منظومة حضارية ثقافية تم فتلها وجدلها بأيادٍ مصرية، وكنا نرى تجليات احترام الإنسان للآخر لما يجتمع المسيحيون والمسلمون فى الاحتفال بمولد سيدنا محمد بن أبى بكر بجوار مولد مار جرجس، ولما تجد منشدًا مسيحيًا زى مكرم المنياوى بيمدح فى السيدة زينب وسيدنا الحسين، ولما ييجى حد النهاردة يحاول أن يهدم هذا المكنون الشعبى، ويقاوم هذا الوجدان ومحاولة نفى الآخر نقول له: «حاسب.. الموالد جدار الصد الحضارى الشعبى».
وفى الموالد بنشوف قمة الديمقراطية والمساواة، فقمة الرقى أن تعمل فى خدمة الأحباب داخل الساحة أو الخدمة، وتتساوى الرءوس فلا فرق بين لواء أو مستشار أو عامل أو فلاح، لأن الكل خدام وكل خادم ينظر للآخر على أن الآخر أكمل منه أو أكثر منه اكتمالًا: «انظر النقص فى نفسك وانظر إلى الجمال فى بقية خلق الله ولا تتأله على أحد بإيمانك أو بعلاقتك مع الله».
وفى المولد يتجلى كل ما هو معقد فى مسائل علم التوحيد وعلم الكلام وعلوم اللغة، وبيتبسط على لسان المنشدين مثل عمى أحمد التونى والشيخ ياسين التهامى والشيخ أمين أو أى منشد، حيث القصائد الصعبة والمعقدة لغة ومعنى لابن عربى والحلاج والرومى وابن الفارض يدندن بها ويرددها العامة والبسطاء، وقد يحفظها الأمى من مجرد سماعها لمرة واحدة، لتنشد فتتمايل الأجسام وتشف وتخف، وتبدأ حالة من حالات الوجد الصوفى والرقى الروحى.