رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى قضية خاشقجى.. التوابع التى ستتفوق على الجريمة


الأسئلة التى اجتاحت المشهد ببديهية، عادلة، جاء أبرزها يتساءل عن الحالات المشابهة لجرائم القتل الدولية المروعة، باعتبارها لم تحظ بمثل هذا الصخب الإعلامى والسياسى الذى يدور منذ اختفاء خاشقجى، ويحلو للبعض أن يُسكت هذا الطرح، باعتبار أن جريمة خاشقجى ارتكبها رسميون على اختلاف مراتبهم، وهذا هو مربط فرس الاهتمام.
والحقيقة أن تلك الإجابة السطحية، واصطناع التباكى على حقوق وحريات شخصيات بعينها دون آخرين، هى حلقة مفرغة يطول الدوران فيها، ضمن حلقات عديدة تتكاثف حول تلك القضية من لحظاتها الأولى، لكن الأخطر والأسوأ للأسف لم يأتِ بعد.
الثلاثاء الحاسم- كما كان يحلو لجوقة الرئيس التركى خروجه بهذه الصيغة- لم يتم إجهاضه بمعرفة مديرة الاستخبارات الأمريكية التى وصلت أنقرة صباح نفس اليوم، إنما المؤكد أنها اطلعت على كل ما كان أردوغان سيطرب به آذان مستمعيه، ومن ثم أجرت عليه جراحة مونتاج دقيقة، فقط بغرض ضبط إيقاع الخيوط الدقيقة لتصعيد القضية.
جراحات من هذا النوع؛ عادة تضع على الطاولة المستهدفات التى بدا من اللحظة الأولى، أنها متوافقة أمريكيًا وتركيًا، ولم يصبها النشاز ولو فى نغمة واحدة، للحد الذى سقط فيه البعض فى فخ الانبهار وامتداح إدارة أردوغان القضية، باعتباره سيخرج على رأس الفائزين الذين يسير فى ركابهم حتى الآن.
الذى وضعته «جينا هاسبيل» على المائدة، وعلى أجندة العمل المشترك الآن ومستقبلًا، ربما ساهم إلى حد كبير فى صناعة «ثلاثاء تركى غائم» بدلًا من «الحسم»، الذى كانت تسن له سكاكين الإعلام.
أعادت «هاسبيل» تذكير أردوغان بأن الحسم حتى وإن توافرت أدواته- وهى غير مكتملة بالمناسبة- هو آخر ما يمكن التفكير فيه أو استخدامه الآن، فهى قادمة كى تبنى على ما نجح وزير خارجيتها فى الخروج به من الرياض، حيث دفع القصر الملكى السعودى، للاعتراف بأن هناك جريمة ارتُكبت، وأن عناصر رسمية هى من نفذتها، وكان الضغط «حاسمًا» فى ضرورة الخروج برواية سعودية ما، بغض النظر عن معقوليتها، كى يُستخرج منها لاحقًا جدل متخم بالتفاصيل، لذلك ضمنت «هاسبيل» لأردوغان تحقيق مبتغاه المبدئى، وهو الإمساك مستقبلًا بأطراف خيوط الجراحة، على أن يظل ضبط إيقاع الحرارة والتوقيتات أمريكيًا، يدقق جيدًا فى واشنطن أولًا، قبل السماح بخروجها للعلن أو للتداول.
أول الخيوط التى سمح بانطلاقها على لسان أردوغان، هو إمكانية تحويل محاكمة المتهمين المباشرين فى عملية القتل، إلى شكل من أشكال المحاكمات الدولية أو الخاصة على أقل تقدير، وقد يكون الحديث عن هذا الأمر بعيدًا اليوم، وتنفيذه بحق السعودية ليس بالأمر اليسير، فهى تملك دفاعات وكروت ضغط قوية قادرة على إجهاض مثل هذا التحرك، لكنه يمكن المراهنة عليه بوضعه أولًا على لسان الرئيس التركى، ومن ثم تليه مطالبات أخرى فى حال رفض مثولهم أمام قضاة أنقرة.
الخيط الثانى الذى سيلعب عليه أردوغان، وسيفتح به مساحة هائلة أمام أطراف عدة، هو زعزعة شرعية الحكم فى البيت الملكى السعودى للمرة الأولى فى تاريخه، وسيكون القصف بذات العنوان الذى جاء ذكره، عن ضرورة معرفة وحساب من قام بتوجيه المنفذين.
الأمر كما هو ظاهر حتى الآن يتمحور حول ولى العهد بإلحاح، قد يصعب تجاوزه مستقبلًا أو الالتفاف عليه من جانب القصر الملكى، لكن جوهره يمتد لما هو أبعد من الأمير محمد بن سلمان، فالابتزاز الذى وضع بفجاجة من لحظة الجريمة الأولى يشى بأن تلك الساحة «الخاصة» من الضغوط ستشهد فصولًا متنامية، وبتدرج سيُعمل له حساب أمريكى تركى مشترك.
الفجوات العديدة التى تشوب الحدث، بعد ما يزيد على عشرين يومًا من وقوعه، أصبحت اليوم بعد طوفان الأخبار والتعليقات السياسية والتقارير الإعلامية، من الصعب أن يلتفت إليها أحد، أو أن تخضع لتدقيق يمكنه الوقوف على إجابات معقولة قبل أن تكون حاسمة، لكن مما يمكن ذكره إجمالًا لتوصيف هذا المشهد، أن الكل كان يعلم ويرى ويمرر ويصور ويسجل، فى الوقت الذى كانت وحدها العناصر السعودية تعمل فى ظلام خادع، وهذا أضعف أسلحتها المضادة، ونزع عنها القدرة على طرح ما لديها.
فالسيناريو مشهده الأول صُنع فى واشنطن حيث يقيم خاشقجى، وهى المحطة التى دفع منها للسفر إلى إسطنبول، فمَنْ أوحى ومَنْ وضع السعودية على محك ضرورة استرداد الرجل وفق الرواية السعودية؟، والتى أظن أنها المهمة التى خرج من أجلها المنفذون، والتى تلاها تنسيق لم يفصح عن حجمه مع الجانب التركى، خاصة مع ظهور «خديجة كنجيز» المرافق التركى الأمين لخاشقجى، التى ستضمن سيره على خط وصوله إلى محطته الأخيرة.
بالطبع الحصول على إجابات عن كلا الأمرين، رفاهية لن يستهدفها أحد الآن لكنها مربط حقيقى، يُجيب عن السؤال الرئيسى مَنْ أوقع بالسعودية فى الجرم المشهود، وستليه بالطبع إمكانية كشف اللغز الذى بموجبه تُعاقَب السعودية، متضمنًا تفسير التوقيت كى يتم ربطه مع الانفراجة المفاجئة التى شهدتها العلاقات التركية الأمريكية.
لن يقف الأمر عند حدود المملكة بالطبع، هو فى الأساس بدأ بقوة قبيل اختفاء خاشقجى بأسابيع محدودة، عندما شهدت العاصمة الكويتية زيارة غاضبة قام بها ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، حمل فيها كمًا كبيرًا من أمارات الدهشة والاستهجان من الخطوة الكويتية، التى بموجبها منحت تركيا تواجدًا إضافيًا على ضفاف الخليج العربى، من دون أى مبرر يمكن قبوله فى ظل ما تشهده الساحة الخليجية منذ سنوات، فمجلس التعاون الخليجى كمكون جامع لتلك الدول، لم يفق بعد من توابع خلخلته بالقاعدة العسكرية والاستحواذ التركى على الدوحة، وإذا بالرياض تصحو لتجد هذا التواجد يتكاثف على مزيد من الأطراف، لذلك وجدت عاصمة القلب للمجلس نفسها أمام معادلة جديدة، كانت فقط تحتاج إلى محفزات للإشعال تكفلت به سريعًا قضية خاشقجى، التى لم تخلف موعدها مع كل الحضور فى تلك الفقرة الأخيرة.