رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مستقبل إدلب.. الكل فى خدمة التغيير الديموغرافى


التقط الجميع أنفاسه، بعد الابتعاد المؤقت لشبح الحرب عن محافظة إدلب فى الشمال الغربى السورى. بعد شهور الصيف الساخن، الذى شهد قرعًا لطبول حرب ظن البعض إمكانية خوضها قريبًا، وعمل آخرون إلى إزاحتها ولو إلى الخلف قليلًا ريثما يرتب أوضاع تمركز، تسمح له بأفضلية خوضها فى ظروف تحقق له قدرًا من التقدم. تفاصيل مقدماتها كشفت بوضوح عن وجود تناقض واسع فى المصالح بين روسيا وإيران من جهة، وتركيا من جهة أخرى. على الرغم، افتراضًا، كونهم ضمن حلف سياسى عسكرى، يرعى «مناطق خفض التصعيد» التى اتفق عليها، بمقتضى ترتيبات «أستانا وسوتشى» منذ نهاية العام الماضى.
قمة طهران الثلاثية، التى جمعت الرئيس الروسى بنظيريه الإيرانى والتركى فى السابع من سبتمبر الماضى أخرجت التناقض الكبير بين هذا الثلاثى إلى السطح، خاصة فيما يتعلق بمصير إدلب، رغم حرص هذه الأطراف على أن يكون البيان الختامى للقمة إيجابيًا فيما يخص القضية السورية إجمالًا، حتى يمكن ترويج جدارتهم برعايته أمام أطراف دولية وإقليمية أخرى، لا تكن ارتياحًا لهذا المسار برمته. لذلك شدد البيان المشترك لتلك القمة على التزام الدول الثلاث المستمر بسيادة سوريا، واستقلالها، ووحدتها وسلامة أراضيها. ورفض كل محاولات خلق حقائق جديدة على الأرض، بحجة مكافحة الإرهاب. وأعربت عن تصميمها على الوقوف ضد الأجندات الانفصالية، التى يمكن أن تقوض الأمن القومى للدول المجاورة.
لم يكن هذا البيان المجافى تمامًا للواقع على الأرض، هو الوحيد المستغرب فى هذا اللقاء الكاشف. إنما سادت بالداخل السورى حالة لافتة من الدهشة، جراء غياب سوريا الرسمى عن هذا اللقاء الذى جرى ليحدد مصير الشمال السورى كاملًا. فالتساؤل المنطقى بحث عن سبب إصرار روسيا وإيران حتى هذا الفصل من الترتيبات، على الاستئثار بالقرار نيابة عن النظام السورى، هذا على المستوى الشكلى على الأقل. الغريب وغير المفهوم أيضًا، جاء فى استقبال الطرف الدولى هذا الاجتماع بمخرجاته الهشة، التى ثبت فشلها بعد ساعات من انتهائها. فالمدهش أنه بعد يوم واحد عُقد اجتماع لمجلس الأمن الدولى ناقش بشكل أساسى «قضية إدلب»، حيث تشارك مع القمة الثلاثية فى أنه لم ينتج شيئًا مفيدًا يذكر. حيث تجاهل تمامًا كل التنظيمات الإرهابية المدججة بالسلاح، فى الوقت الذى ركز فيه مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا «ستيفان دى مستورا» على الجانب الإنسانى فحسب. واقتصر حديث مجلس الأمن عن وجوب فتح عدد كافٍ من ممرات «الإجلاء الطوعى» المحمية، لنقل المدنيين فى كل اتجاه يرغبون أو يتم الاتفاق على الذهاب إليه.
ليخرج الاجتماع «الدولى» بمهمة وحيدة لا يفهم منها سوى أنه أراد تسهيل التهجير والتغيير الديموغرافى، بحجة إبعاد البشر عن ويلات الحرب المدمرة المرتقبة. من دون أن يذكر ضرورة عدم شن الحرب أساسًا، أو وضع حد للفصائل الإرهابية المتناثرة فى شمال غرب سوريا، والمعلوم أماكنها وولاءاتها ومن يقوم برعايتها وضمان حماية قدراتها. ولم يقف دور المنظمة الدولية عند حد هذا القصور فى الرؤية وعجز الإرادة، بل بعدها بأيام قام «دى ميستورا» بدعوة ممثلين عن روسيا وتركيا وإيران، للاجتماع فى جنيف لمناقشة اللجنة الدستورية التى تبناها، بناء على مخرجات «سوتشى»، ولم يتم التطرق إلى قضية إدلب وكأن النقاش الذى شهده مجلس الأمن كان مجرد استهلاك للوقت، والأخطر إضفاء شرعية على ما جرى بعد ذلك من اتفاق روسى تركى.
فما ظهر على الأرض بعد ذلك، أن عززت تركيا من وجودها العسكرى فى إدلب وما حولها. وقامت وفق اتفاقها مع روسيا بتدعيم مراكزها «العسكرية» الاثنى عشر، الموجودة فى جنوب إدلب بمواجهة الجيش السورى وحلفائه، حيث دعمتها طوال الأسبوع الماضى بأرتال من الأسلحة الثقيلة. فى المقابل، حاول النظام السورى أن يصعد عسكريًا من خلال شن غارات على العديد من القرى فى ريف إدلب. وتعرضت فعليًا لغارات هى الأعنف منذ تهديد دمشق وحلفائها الإيرانيين بشن هجوم وشيك على المنطقة، ونفذت أيضًا طائرات روسية عشرات الغارات، فى الوقت الذى ظهرت فيه مرة أخرى البراميل المتفجرة على المناطق الآهلة بالسكان، ليستمر كل من روسيا وتركيا فى إرسال رسائلهما غير المباشرة إلى الطرف الآخر، حتى توصلا إلى اتفاق فيما بينهما لا يبدو منه سوى أنه بصدد ترتيب نقل للسكان، وتفريغ إدلب ممن هو غير مرغوب فيه، بجانب إطلاق يد تركيا لتهذيب أوضاع التنظيمات المسلحة بالمنطقة تحت مسئوليتها وبمعرفة أجهزة استخباراتها العسكرية.
ما تعهدت به تركيا لروسيا وفق هذا الاتفاق، أن لديها القدرة على فرز الفصائل الإرهابية، عن غيرها من الفصائل التى اصطلح على تسميتها المعارضة المعتدلة.على أن يتم ذلك عبر عمليات عسكرية دقيقة، يمكن أن يقودها الجيش التركى. الأكثر وضوحًا بعد استبعاد طهران واقتصار الأمر على هذا الشكل الثنائى، أنه ربما تكون أنقرة قد اتفقت مع روسيا وراء الكواليس على أثمان أخرى فى ملفات ومناطق أخرى غير إدلب، وقد يكون هذا وفق تفاهمات سياسية أو عسكرية أو حتى تجارية فيما بينهما، سواء كان ذلك فى داخل سوريا أو فى غيرها مما يتشارك فيه الطرفان.
البادى للعيان، حتى الآن على الأقل، أن الثمن الباهظ الحقيقى، سيدفعه الطرف الأضعف فى هذه المعادلة المعقدة، وهم السكان المحليون لإدلب والنازحون إليها من مناطق أخرى. فكل طرف يعمل بدءب على خريطته الخاصة للترتيب الديموغرافى الذى يلائمه ويحقق سيطرته، ويضمن نفوذه المناطقى، فى ظل تواطؤ دولى واسع يرى ويسمع ويعقد اللقاءات دون كلمة واحدة، أو إرادة فاعلة لوقف هذه الدائرة الشيطانية التى تحرك سكان سوريا بالكامل، تحت وقع النار والدمار والوجود العسكرى الأجنبى متعدد الأطراف.