رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"حدث في بلاد السعادة".. فرجة مدهشة على خطاب قديم

جريدة الدستور

كان يمكن لعرض «حدث في بلاد السعادة» أن يمر مرور الكرام، لو أنه جاء قبل العام 1968.. لكن وما دام يعرض في العام 2018 لزم أن نتوقف أمامه طويلاً.

كان يمكن أن أكتفي بمتعة المشاهدة فيما عناصر الفرجة تبدو مكتملة وربما إلى حد الإبهار.. هل قلت مكتملة؟ نعم ثمة تمثيل يتراوح بين الجيد في معظمه، والعادي في مساحات أقل، وموسيقى وغناء واستعراضات راقصة، وملابس بعضها موغل في القدم وبعضها يلمّس على عصور أخرى مختلفة، وأقنعة تحيل البشر إلى مسوخ، والأهم ديكور متحرك مرن ساعد إلى حد بعيد في استغلال الخشبة، والتنقل من مشهد لمشهد بسلاسة وبشكل لافت محمود، لولا الغلو في استخدام شعار أو تيمة البلد 14 مرة في لقطة واحدة، واستخدام الإضاءة بشكل صحيح، باستثناء لحظات قليلة فشل فيها الممثل في أخذ الإضاءة المحددة له من قبل المخرج مازن الغرباوي، وهي مسألة لها علاقة بالخبرة والإحساس بحرارة الضوء على وجه الممثل.. فضلاً عن ذلك، وما زال الحديث عن عناصر الفرجة، الاستعانة بتقنية خيال الظل من جانب ثم تطويرها إلى التقنية السينمائية في مشاهد «فلاش باك».. وأخيرًا خطاب المؤلف وليد يوسف.

على بدءٍ نعود
في العام 1968 انطلقت فكرة تعليم الكبار التي وضعها باولو فريري من شمال شرق البرازيل لتعم قارة بأسرها، ومن ثم أحدثت ثورة في مفهوم النضال من أجل التقدم الإنساني، وليس في مجال تعليم الكبار فحسب.

وباولو فريري مواطن برازيلي وضع يده على سر العلاقة بين المقهور والقاهر، ورأى أنها علاقة مبنية على تواطؤ بحت بين الطرفين، ونسف المفهوم الراسخ بأن الطرف الأضعف في هذه الثنائية هو المقهور، وذهب إلى العكس تمامًا شريطة أن يعي المقهور بأنه الأقوى.

ما حيّر «فريري» أن المقهور إذا أتيحت له فرصة التحرر فإنه يبحث عن قاهرٍ جديد يسلم له مقوده (!) وكأنه لا يستطيع العيش بدون قهر.. هكذا وضع «فريري» اللبنة الأولى للتحرر عبر كتابه «تعليم المقهورين»، وتتجلى أهمية الكتاب، وخطورته، في أنه تعبير أصيل عن تجربته الإنسانية المعاشة، فضلاً عن رؤية حقيقية لاحتياجات المقهورين فى عالم تتعدد فيه صور الاستلاب.

هكذا راهن «فريري» على التعليم بوصفه أداة للتحرر، أولًا، وبه ثانيًا يمكن أن يمتلك البشر وسائل تغيير العالم، فالتعليم في نظره أداة نقدية تكشف للمقهورين حقيقة أنفسهم وحقيقة قاهريهم.. ومن هنا راح يعالج فكرة «الخوف من الحرية» التي تصيب المقهور وتقذف به إلى ثقافة الصمت.. وهي للأسف الشديد ثقافة تتعمد النظم التعليمية تكريسها، واستمرارها على نحو يصب في مصلحة القاهر بالأساس وعلى طول الخط.

يذهب «فريري» إلى التأكيد على أن القاهر يمعن فى الامتلاك والسيطرة، فيما يشعر المقهور بشيء من التوافق مع قاهره، حتى أنه يقلده كلما سنحت له الفرصة، ومن ثم فإنه يمارس اضطهاده على من هم أدنى.

«فريري» إذن كان على يقين من أن المقهور يثق في من يفوقه قدرة وعلمًا، فينجذب له عاطفيًا بوصفه تجسيدًا لرجولته الضائعة.. وهكذا تصبح صورة الإنسان في مخيلته هي صورة القاهر، وليس صورته هو، صورة أناه، وهنا تكمن الأزمة المأساوية للمقهورين.

إذن هذا الخوف من الحرية، كما يرى «فريري»، ناتج عن احتدام الصراع بين الإبقاء على شخصية القاهر فى ضمير المقهور أو انتزاعها.. فالقاهر هو القوي الذكي القادر على العمل.. بينما المقهور هو الضعيف الغبي الكسول.

ولدحر هذه الازدواجية لابد أن ينتزع المقهور من صدره صورة قاهره، وأن يتجرد من كل شبهة إعجاب به، ولذلك كان حتميًا ابتكار نظم تعليمية ترتبط فيها المعرفة بالعمل، فالمعرفة وحدها ما هي إلا مجرد ادعاء ورطانة.. فيما العمل هو فعل حقيقي يكشف للمقهور عن مواطن إبداعه وحقيقة ذاته وقدرته على الفعل.. والأهم من ذلك يكشف له «تصدع شخصية القاهر» ويكسبه القدرة على التمييز بين قاهريه.

وفي كتابه يميز «فريري» بين القاهرين.. فالأكثر خطورة هم أولئك الذين يلجأون إلى قضايا المقهورين بينما هم مشغولون بأدوات طبقاتهم القديمة ولا يثقون إلا بأنفسهم، وبكرم زائف يسلبون المقهورين حق الدفاع عن أنفسهم.. بمعنى أن الذي ينحاز إلى قضايا الناس ويتهمهم بالجهل هو في حقيقته مخادع لنفسه وللناس أيضًا.

لم نبتعد وإنما نقترب جدًا
ربما يظن البعض أننا بحديثنا عن باولو فريري نبتعد عن (يحدث في بلاد السعادة)، لكنني أظن ـ وليس كل ظني إثم ـ أننا في صميم القضية.. فثمة حاكم «دمية» غارق في ملذاته يحركه وزير متجبر حتى على الحاكم نفسه وعلى مستشار الحاكم.. وثمة بشر يصرخون من الظلم والقهر والجباية ووقف الحال.. وزنازين تتلقف العقول المستنيرة، الحكيم والشاعر مثلاً، حتى أنهما يرفضان فيما بعد التحرر على يد حاكم جديد من الشعب، بل وينصحانه بأن يكون قويًا ولا يضعف أمام شعبه وإلا تمرد الشعب عليه وثار ضده (!)

هذا باختصار خطاب المؤلف وليد يوسف لتحرير المقهورين من ظلم القاهر.. وهو خطاب مكرر فاشل يستهلكه السُذج ويُعجب السلطة لأنه يثبِّت أركانها ويمنحها دائمًا قبلة الحياة بتخدير الشعوب.

مازن الغرباوي وعناصر الفرجة
بالتأكيد هناك مستويات للتلقي.. المشتغلون بالثقافة والمشغولون باللعبة المسرحية يعرفون ذلك.. يعرفون أن مسرح الدولة هو الخندق الأخير للثقافة.. ولذلك هو مستهدف.. يدركون أن السلطة لا تحبه.. تضيّق عليه.. تقلّص الميزانيات.. تحرمه من الدعاية.. تشجع على ظهور أي منافس له من القطاع الخاص يقدم مجرد سكتشات تافهة.. وبالرغم من ذلك يطل المسرح الحقيقي فجأة ليقول «أنا موجود.. أنا بخير».. صحيح أننا ننتظر هذه الطلّة كثيرًا، ربما لسنوات، لكن المسرح لا يخيّب ظننا.. ففي العشر سنوات الأخيرة، بدءًا من 2009، كانت هناك «قهوة سادة» و«قواعد العشق الأربعون» والآن «حدث في بلاد السعادة»، والمؤكد أن هناك عروضًا أخرى.. المحصلة قليلة.. نعم.. لكن الكيف مؤثر.

مازن الغرباوي هو مخرج عرض (حدث في بلاد السعادة).. اجتهد في تقديم وجبة مسرحية دسمة.. نجح في اختيار فريق عمل يدير معه عرضًا ضخمًا.. انتخب توليفة من الممثلين أضفت حيويةً وأبرزت أداءً تمثيليًا محترفًا أشبه بالمباراة الإيجابية على خشبة المسرح.. استخدم خشبة المسرح كاملة (أمام الستارة وخلفها)، ولم يكتفِ بذلك فلجأ إلى ما بين مقاعد الجمهور ليس بممثل أو اثنين، وإنما أحيانًا بمحاميع كاملة، ثم في أركان المسرح استخدم ما يشبه بالوعات يخرج منها الممثلون (الشحاذون).. كما شغل زمن العرض بكل مفردات التمثيل (على مستوى الصوت) من ديالوج إلى مونولوج (حي أو مسجل بلاي باك) إلى موسيقى إلى غناء.. بمعنى أنه شغل كل سنتيمتر متاحًا على مستوى المكان، وكل ثانية على مستوى زمن العرض بشكل احترافي راقٍ.. لكن العرض، وليس النص، كان يحتاج كثيرًا من لحظات الصمت يا مازن.

الشاعر حمدي عيد
كنت أتمنى أن أكتب عن شاعر أحبه كثيرًا هو حمدي عيد.. لكنني للأسف الشديد لم أسمع جملة واحدة مما يغنيه وائل الفشني وفاطمة محمد علي.. وكانت المشكلة التقنية هي البطل في مساحة الغناء الكثيرة، والممتدة طوال زمن العرض.. ثمة موسيقى مبهرة ومتعوب عليها وضعها محمد مصطفى، وكورال أنصفه المخرج وجعلنا نراهم عبر نافذة يمين خشبة المسرح.. وثمة صوت يخرج من الراوي والراوية.. جميل نعم.. لكن جملةً مفيدةً لم تصلني (!)

التحية واجبة لهؤلاء:
حازم شبل (مصمم الديكور) د. مروة عودة (مصممة الأزياء) مصطفى التهامي (مصمم الإضاءة) خالد عباس (مصمم الخدع) رضا صلاح (3d mapping).
وهيئة الإخراج: أسامة القاضي ـ أحمد أمين ـ محمود سكر ـ ندى إبراهيم.. وللمخرجين المساعدين: علاء عادل (وهو أيضًا المستشار الإعلامي) ومحمد الخيام.. وللمخرجين المنفذين: كريم محروس ونور السيد.

وأخيرًا التحية لأبطال العرض: مدحت إسماعيل ـ علاء قوقة ـ أسامة فوزي ـ حسن العدل ـ راسم منصور ـ سيد الرومي ـ محمد حسني ـ عبد العزيز التوني ـ نسرين أبي سعد ـ ميدو بلبل ـ عمر طارق ـ حسن خالد ـ خدوجة صبري.
ولجوقة الشحاذ: محمد يوسف ـ عبده بكري ـ محمد شبراوي ـ مصطفى معوض ـ منى زكريا ـ نورهان عادل.