رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريمة أطفال الجمرك.. وجرائم محافظ بورسعيد


لك عذرك لو تعاطفت مع الأطفال الذين تم إلقاء القبض عليهم بتهمة محاولة تهريب بضائع أجنبية غير خالصة الرسوم، عبر المنافذ الجمركية بمحافظة بورسعيد، والتقطتهم سيدة خمسينية حاولت ‏أن تلعب معهم دور المذيعة، والقاضي والجلاد، فارتكبت عدة جرائم تستوجب عقابها وعقاب شركائها الذين يتقدمهم محافظ بورسعيد. ‏

بين كل المتعاطفين مع الأطفال المتهمين، ابتلعت عصا المهندس نجيب ساويرس كل «حيّات» المتعاطفين أو تغريداتهم التي كان بعضها موضوعيًا ومتزنًا، وامتزج بعضها الآخر بغرض أو ‏مرض. كتب تغريدة في حسابه على «تويتر» أعلن فيها رفضه للطريقة التي أدير بها الحوار مع هؤلاء الأطفال، وحين طالبه أحد متابعيه بتوفير فرصة عمل لهم، كان رده: «بالضبط كده.. ‏بيحصل دلوقتي وبعتت لهم محامي للتصالح مع الجمارك والإفراج عنهم إن أمكن عشان نوظفهم».‏

كلام جميل ومعقول ويستحق كل ذلك التصفيق الذي ناله المهندس نجيب على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن ينتقل إلى المواقع الإلكترونية لعدة صحف. لكن في زحام التصفيق وضوضائه أو ‏‏«دوشته» تاهت معلومة تؤكد أن المجلس القومي للطفولة والأمومة قام بـ«الواجب»، قبل أن يكتب المهندس نجيب ساويرس تدوينته: قام المجلس ببحث حالة الأطفال، وقدّم الدعم اللازم لهم، وتمكن ‏عبر «لجنة حماية الطفولة العامة» بمحافظة بورسعيد، من إخلاء سبيل الأطفال بعد دفع الغرامة المالية الموقعة عليهم. والأهم هو أن المجلس تقدم ببلاغ للنائب العام لاتخاذ كافة الإجراءات القانونية ‏حيال تصويرهم أثناء عرضهم على جهة التحقيق.‏

في وقائع سابقة، بينها واقعة الطفل «عبدالرحمن» الذي كان معروفًا إعلاميًا باسم «الراقص مع الكلاب»، طالبت بحل هذا المجلس، والاستفادة من ثمن مقره، على كورنيش المعادي، في رعاية ‏الأطفال الذين ليس لهم مأوى. لكن هذه المرة، أو في هذه الواقعة، قام المجلس لما وصفته بـ«الواجب»، وهو فعلًا واجبه، وواجب لجان حماية الطفولة التي تم إنشاؤها كأداة وآلية مجتمعية للوقاية ‏والتدخل لحماية الأطفال المعرضين للخطر وأسرهم وتبني آليات للاستجابة والتأهيل، تفعيلًا لما نصت عليه المادة ٨٠ من الدستور بإلزام الدولة بحماية الطفل. ومن باب العلم بالشيء، نشير إلى أن ‏المجلس القومي للطفولة والأمومة، هو مجلس قومي حكومي يرأسه رئيس الوزراء ويضم في عضويته وزراء التضامن الاجتماعي، والصحة، والثقافة، والتعليم، القوى العاملة، والتخطيط، الشباب ‏والرياضة، وثلاث شخصيات عامة «من ذوي الكفاءات والخبرة المهتمين بشئون الطفولة والأمومة»، بحسب ما جاء في قرار إنشائه: قرار رئيس الجمهورية رقم ٥٤ لسنة ١٩٨٨ المعدل بقرار ‏رئيس الجمهورية رقم ٢٧٣ لسنة ١٩٨٩. ونشير بالمرة إلى أن لهذا المجلس «خط ساخن» رقمه ١٦٠٠٠ مخصص لـ«نجدة الطفل».‏

نعود إلى أصل الموضوع، لنقول إن التهريب الجمركي جريمة، تضر بالأمن القومي وتؤثر سلبًيا على الصناعات الوطنية وبالتالي تضر بالاقتصاد الوطني. لكن أمام الجريمة «المتهم» فيها ‏الأطفال الأربعة، جرى ارتكاب جريمة «ثابتة»، بتصويرهم وإجراء حوارات معهم خلال تواجدهم بقسم شرطة «المينا» بمحافظة بورسعيد. وهي الجريمة التي يعاقب عليها القانون المصري بغرامة ‏لا تزيد عن خمسين ألف جنيه، ونجدها فرصة للمطالبة بتعديل تشريعي يرفع الحدين الأدنى والأقصى للغرامة حتى تكون رادعة، لأمثال تلك السيدة خمسينية التي حاولت، كما قلنا، أن تلعب مع ‏الأطفال المتهمين دور المذيعة، والقاضي والجلاد، فارتكبت عدة جرائم تستوجب عقابها وعقاب شركائها الذين يتقدمهم محافظ بورسعيد. ‏

اسمها «سلوى حسين» تجاوزت الخمسين، كانت تعمل موظفة بقسم العلاقات العامة بحي بورفؤاد، إلى أن تم انتدابها في عهد محافظ بورسعيد الحالي إلى ديوان عام المحافظة، لتعمل بقسم العلاقات ‏العامة، قبل أن تتولى مسئولية «الإذاعة المحلية للمحافظة»، وتقدم يوميًا النشرة المحلية للمحافظة، ويتم الاستعانة بها لرصد آراء المواطنين حول المشروعات أو الأزمات التي تحدث بالمحافظة لنشرها ‏على الصفحة الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي. ويكفي أداؤها في الفيديو، لمحاكمة من أوكل إليها أي مسؤولية، وطبيعي أن يكون شريكًا معها في الجريمة التي نصت عليها المادة ١١٦ مكرر ‏‏(ب) مكرر (ب) من قانون الطفل رقم ١٢ لسنة ١٩٩٦، المعدل بالقانون رقم ١٢٦ لسنة ٢٠٠٨: «يعاقب بغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز خمسين ألف جنيه كل من نشر أو أذاع بأحد ‏أجهزة الإعلام أي معلومات أو بيانات، أو أي رسوم أو صور تتعلق بهوية الطفل حال عرض أمره على الجهات المعنية بالأطفال المعرضين للخطر أو المخالفين للقانون».‏

تلك واحدة من الجرائم التي ارتكبتها السيدة الخمسينية، وطبيعي أن يكون قد شاركها فيها مأمور وضباط قسم الشرطة، وقبلهم محافظ بورسعيد، ليس فقط لكون السيدة تعمل تحت إدارته، ولكن أيضًا ‏لأن الصفحة الرسمية للمحافظة على «فيسبوك» نشرت الفيديو تحت عنوان «عدد من الوافدين من المحافظات الأخرى الذي تم ضبطهم أثناء قيامهم بأعمال التهريب». ولا يزال الفيديو على تلك ‏الصفحة الرسمية للمحافظة حتى كتابة هذه السطور، محققًا أكثر من مليون مشاهدة و١٤ ألف مشاركة وحوالي ٥ آلاف تفاعل غالبيتها تعبير عن الغضب، بالإضافة إلى ٣ آلاف تعليق لو ‏قرأها الأستاذ المحافظ، لأصيب على الأقل بالاكتئاب. ‏

بين ما استوقفني في تلك التعليقات هو أن جزءًا كبيرًا منها جاء مؤيدًا لقول أحد الأطفال في الفيديو: «بيمسكوا الغلابة اللي زينا.. بيمسكوا اللي طالع بـ١٥٠ جنيه ومش بيمسكوا اللي طالع بمليون. ‏مع أن الواقع يقول غير ذلك تمامًا. وأمامي الآن تقرير يؤكد بالأرقام أن مصلحة الجمارك تمكنت من إحباط نحو ٧٤ ألف حاله تهريب جمركي خلال ٤٢ شهرًا تغطي الفترة من أول يوليو ٢٠١٤ ‏وحتى نهاية العام الماضي، تم تحرير محاضر بها وتحصيل نحو ٨٥٣ مليون جنيه، من ١٤ مليار جنيه هي قيمة مستحقات الجمارك عنها من الضريبة الجمركية وغرامات التهريب. وأمامي أيضًا ‏تقرير آخر يتعلق بالفترة من أول يناير ٢٠١٨ وحتى نهاية أبريل ٢٠١٨، كشف عن تحرير ٨ آلاف و٩٢ محضر تهرب جمركي، بلغت مستحقات الجمارك عنها من الضرائب الجمركية وغرامات ‏التهريب نحو ٢ مليار و١٨٠ مليون جنيه. ‏

هذه الأرقام تقول بوضوح إن مصلحة الجمارك تبذل قصارى جهدها لإحكام الرقابة على المنافذ الجمركية ومنع أي محاولة للتهريب. لكن مع تقديرنا للدور المهم والعظيم الذي يقوم به العاملون بالمصلحة، فإن هذا لا ينفي أن بينهم فاسدين، تقول وقائع كثيرة ثابتة أن الرقابة الإدارية تقف لهم بالمرصاد، وكان أبرز تلك الوقائع وأقربها حالة جمال عبد العظيم، رئيس مصلحة الجمارك، شخصيًا، الذي لم يكون سقوطه الأول، وطبعًا لن يكون الأخير.