رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

واجعلنا للمتقين إمامًا «2»


ذكرنا فى المقال السابق، شيئًا عن الأمنيات الدنيوية والأخروية. ونستكمل هنا هذا الموضوع مع شىء من الإيضاح: فعباد الرحمن الذين ذكر القرآن الكريم خصالهم وصفاتهم الحميدة فى أواخر سورة الفرقان دعوا ربّهم بهذا الدعاء «واجعلنا للمتقين إمامًا»، -أى طلبوا كما يقول العلماء والمفسرون بجدارة واستحقاق- لا بادعاء وغرور، حاشاهم- منزلة القيادة للجموع المؤمنة، قيادة ممتدّة فى الدنيا والآخرة.
وقد ذكر السياق القرآنى أن الله تعالى أكرمهم بالإمامة الأخروية «أولئك يجزون الغرفة بما صبروا»، وهذا يقتضى أنهم نالوا الإمامة الدنيوية. وقد صبروا على نيلها، والصبر عنصر أساسى وعامل ضرورى لبلوغ هذا المقام وهذه المرتبة مع الصبر واليقين، قال الله تعالى: «وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون»، فقعّد بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة بقوله: «بالصبر واليقين تنال الإمامة فى الدين».
وفى تفسير السعدى، نقرأ معنى قوله تعالى، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أى: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكُمّل من عباد الله الصالحين، وهى درجة الإمامة فى الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين فى أقوالهم وأفعالهم يقتدون بأفعالهم، ويطمئنون لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون.
ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ هذه الدرجة- درجة الإمامة فى الدين- لا يتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}. فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال الصبر على طاعة الله والبعد عن معصيته والإيمان بأقداره المؤلمة، كما يستلزم العلم التام الذى يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، خيرًا كثيرًا وعطاء جزيلًَا، وأن يكون فى أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.
يقول الدكتور عبدالعزيز كحيل عن الإمامة: ويجدر التنبيه على احتمال الإمامة المذكورة لأوجه متعدّدة وأشكال شتّى، فهى ليست مقتصرة على القيادة السياسية وسدّة الحكم- وإن كانت تشملها– بل تبتدئ بالريّادة الثقافية، فتنشر من خلالها الأفكار الحيّة المنعشة على مستوى العقيدة والتصوّر والحياة الفردية والعامّة، أى تحدث إصلاحًا فكريًا فى المعانى الدينية والأذواق والسلوك والعلاقات بين الناس والأمم، إصلاحًا يظهر فيه تميّز المنهج الربانى المحكم الذى تهوى إليه القلوب، وتستقيم بهديه العقول وترشد الحياة، ومثل هذه الإمامة التى مارستها الجماعة قرونًا، تستأنف مسارها بواسطة رجال أفذاذ ذوى إخلاص وبصيرة وحبّ للإسلام وتفانٍ من أجله يحيون سنّة أسلافهم، فقد وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام- وهو فرد- بأنه أمّة فقال عزّ وجلّ: «إن إبراهيم كان أمّة»، سورة النحل ١٢٠، ولمّا طلب عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من الصحابة أن يتمنّوا فتمنّوا المال وأشياء أخرى ليجعلوها فى سبيل الله قال هو: «أما أنا فأتمنّى لو أن لى بيتًا من أمثال أبى عبيدة بن الجرّاح»، وكفى بها شهادة من أمير المؤمنين فى أهميّة الرجل الكامل والمؤمن القوى ليتولّى القيادة، انظر أيها القارئ الكريم فى هذا الحديث الشريف: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضى الله عنهم، وسألهم مبتدئًا بأبى بكر: ماذا تحب من الدنيا؟ فقال أبوبكر رضى الله عنه: أحب من الدنيا ثلاثًا: الجلوس بين يديك، والنظر إليك، وإنفاق مالى عليك. وأنت يا عمر؟ قال: أحب ثلاثًا: أمر بالمعروف ولو كان سرًا، ونهى عن المنكر ولو كان جهرًا، وقول الحق ولو كان مُرًا. وأنت يا عثمان؟ قال أحب ثلاثًا: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام. وأنت يا على؟ قال: أحب ثلاثًا: إكرام الضيف، والصوم بالصيف، وضرب العدو بالسيف.
ثم سأل أبا ذر الغفارى: وأنت يا أبا ذر ماذا تحب فى الدنيا؟ قال أبوذر: أحب من الدنيا ثلاثًا: الجوع، والمرض، والموت. فقال النبى، صلى الله عليه وسلم: ولِمَ؟ فقال أبوذر: أحب الجوع ليرق قلبى، وأحب المرض ليخف ذنبى، وأحب الموت لألقى ربى. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: حُبب إلىّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عينى فى الصلاة.
وحينئذ تنزل جبريل، عليه السلام، وأقرأهم السلام، وقال: وأنا أحب من دنياكم ثلاثًا: تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، وحب المساكين. ثم صعد إلى السماء وتنزل مرة أخرى وقال: الله، عز وجل، يقرئكم السلام ويقول: إنه يحب من دنياكم ثلاثًا: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا، وجسدًا على البلاء صابرًا). ثم تتعدد الأمنيات والآمال والأحلام والطموحات، وخير الأمنيات التى تجمع بين الدنيا والآخرة، فكلاهما من خلق الله لنا «رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».
وللحديث صلة وبالله التوفيق.