رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصير إدلب.. ما بين الابتلاع التركى وتردد الآخرين


الرئيس السورى بشار الأسد، فى تصريحاته العلنية الأخيرة، تحدث عن أن الجهد العسكرى السورى المقبل سيكون باتجاه محافظة إدلب، وهو هنا لم يكن يكشف سرًا عسكريًا بقدر ما كان يوجه حديثه إلى تركيا، التى أعلنت هى الأخرى استباقًا لهذا التصريح، أن سيناريو حلب والغوطة غير مقبول به فى إدلب، التى ينبغى أن تكون لها ترتيبات مغايرة. هل يمكن اعتبار كلا التصريحين بمثابة «جس النبض» ما بين الطرفين، أو يجوز إسنادهما إلى «فترة الإحماء»، حيث يتجهز كلاهما إلى وضع قواعد اللعبة على مائدة هذا الملف الشائك؟
لكن مائدة الحقيقة المنصوبة فى «سوتشى ١٠» الروسية، تتناول الأمر على غير ذلك، حيث تم وفق المعلن، بحث مجمل ترتيبات الأزمة السورية، وجدول أعمال الفترة المقبلة.
مخرجات المؤتمر تمحورت حول أربع نقاط رئيسية: الأولى تتعلق بملف إدلب واستمرارية خفض التصعيد فيها، لتتحول من منطقة خفض تصعيد إلى منطقة وقف إطلاق نار شامل، النقطة الثانية، بحثت ملف المعتقلين لدى الطرفين، النظام كطرف والمعارضة المسلحة المدعومة من تركيا رسميًا كطرف مقابل، وقد أخرجت الجولة العاشرة بادرة حسن نية، لتبادل عدد محدود من المعتقلين لدى كلا الطرفين، حيث يمكن أن يتطور ذلك إيجابيًا، بعد ترسيخ الآلية التى تم التوافق عليها من قبل مجموعة العمل.
أما النقطة الثالثة، فتتعلق بملف اللجنة الدستورية، حيث تأكد أنها ستبدأ عملها فى وضع دستور سورى جديد فى جنيف بداية سبتمبر المقبل، والنقطة الرابعة التى تقدم بها الوفد الروسى، هى عودة اللاجئين والمهجرين، حيث أكد الراعى الروسى أنه من حيث المبدأ، هو حق لكل مواطن سورى، ونفى أن تكون هناك نية لوقوع أى تغيير ديموغرافى، لكن فى تلك النقطة الشائكة هو لم يقدم ضمانة بقدرته على إنفاذ حقيقى لذلك، حيث أورد الطرف الروسى أنه فى الوقت ذاته، يريد أن تتم العودة بطريقة آمنة وتجهيز البيئة الآمنة لعودتهم، وبدا التأرجح فى تلك النقطة، عندما ربطه بتحقيق تقدم واضح المعالم فى العملية السياسية، ما يضمن اطمئنان المواطنين بعدم اعتقالهم (تعبير روسى)!
قصدنا أن نورد النقاط الأربع، التى تعد المخرجات الرسمية لتلك الجولة التى يُنظر إليها باعتبارها أقرب للحسم الكامل، فيما يخص الترتيبات النهائية، خاصة أنها تأتى قبيل دخول الأمم المتحدة على خط إعادة الإمساك بالملف مرة أخرى، كما جرت الإشارة إلى بحث مسألة الدستور- عصب العملية السياسية- فى سبتمبر بجنيف، لكن وفق الاقتراب عن كثب من الجولات التسع السابقة لـ«سوتشى»، ومعها ملحقها العملى المسمى بـ«أستانة»، يمكننا القول بارتياح إن تلك الجولة- التى تلخص وضع اليوم فى سوريا- تعبر عن مخرجات أكثر إيجازًا مما أُعلن رسميًا.
أخطرها ما يمس «إدلب»، المحافظة التى يبلغ تعدادها اليوم وفق تقديرات الأمم المتحدة، ما يتجاوز نحو «٢.٧٥ مليون نسمة» بينهم «١.٥ مليون» نازح ومهجر داخليًا، هذا الرقم الأخير يضم ما يقارب المليون من عناصر ما أطلق عليها سابقًا «المعارضة المسلحة»، واليوم بعد إعادة ترتيب التموضع والتمثيل التركى لهم فى كلتا النسختين من المباحثات، تبين أنهم ينقسمون ما بين عناصر «الجيش السورى الحر» و«فصائل عديدة تتبع تنظيم القاعدة»، مثل هيئة تحرير الشام «النصرة سابقًا» وغيرها من الأقل عددًا.
إذن ماذا خرجت به تركيا بعد تلك الجولة من المفاوضات، بعد أن صرحت قبلها بأنه فيما يخص هؤلاء، لن يكون هناك سماح بالتعامل معهم عسكريًا من قِبل النظام أو روسيا.
رسميًا قيل إن إدلب ستستمر كما هى عليه، على الأقل فى المرحلة الحالية والمقبلة، فى حين سعى الجانب التركى لمزيد من الالتزامات الروسية حيال ذلك، ما دفع أحد الأطراف بـ«الأمم المتحدة» فى سوتشى، إلى أن يهمس فى أذن ممثل «المعارضة السورية» مباشرة، بأنه ليس من مصلحة روسيا إثارة الوضع فى إدلب وتخريب العلاقات مع تركيا، وبالتالى فإن مصير إدلب يجعل المحافظة تتنفس الصعداء مؤقتًا، من تهديدات النظام بالهجوم عليها، فلا أحد لديه قدرة الآن على التعامل مع تهجير مليونى سورى على الأقل منها.
هل يمكن النظر إلى ذلك باعتباره نتيجة جيدة، ولو باختيار أى زاوية رؤية تتجاوب مع التقدير المطلوب، فالواقع على الأرض يشى بمتغيرات هائلة وفارقة فيما يتعلق بمصير الشمال السورى، البادى منه للعيان حتى الآن صادم بالقدر الذى يعيدنا إلى «نصف المنطقة الكردية» التى تم ابتلاعها والسيطرة عليها من قِبل قوات «غصن الزيتون» التركية، وهنا نحن نتحدث عما يقارب «نصف محافظة سورية» لا أحد اليوم يتحدث عنها، فهى وفق الترتيب الأممى والضامنين تحت العهدة التركية، هذا منذ شهور قليلة مضت، وترتب عليه اليوم بعد التجهيز لضم «محافظة إدلب» لتلك «العهدة»، أنه أثناء جلسات «سوتشى» كانت تركيا قد أنجزت ما يقارب نصف «مشروع متكامل»، لإقامة جملة من الاستثمارات الرامية للنهوض بمنطقة «شمال وشرق حلب» اقتصاديًا، ومن بين هذه الاستثمارات ربط مدن شمال سوريا بـ«طرق سريعة».
أعمال الطريق السريع الأول تم إنجازها، حيث يمتد من معبر الراعى الحدودى إلى مركز بلدة الراعى، ومستمرًا على قدم وساق، إذ من المقرر أن يمتد هذا الطريق حتى منبج «السورية الكردية»، وسيكون هناك طريقان آخران كجزء متصل بالطريق السريع الذى سيصل إلى الراعى، وسيمتد الطريق الأول حتى «الباب»، أما الثانى فسيمتد حتى «جرابلس».
هذه أراضٍ سورية يجرى العمل عليها من قبل تركيا بهذه الصورة الاستثمارية «السيادية» الاستراتيجية، تزامنًا مع إلحاق كامل محافظة «إدلب» بها، فى وقت تبدو كل الأطراف الأخرى فى احتياج إلى تركيا بصورة أو بأخرى، ما يدفعهم حثيثًا لخطب ود الاستجابة لطلباتها التى لن تقف عند هذا الحد.. وهذا ما يمكن تناوله الأسبوع المقبل بمشيئة الله.