رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا «1»


يتمنى كثير من الناس أمنيات عديدة فى حياتهم لاستكمال ما يحتاجون إليه أو يطمعون فيه أو يحلمون به، ويدعون الله تعالى أن يُنعم عليهم فى الحياة الدنيا وأن يحفظ تلك النعم. والأمنيات والأحلام أمر مشروع لا بأس به، ولكن من الضرورى العمل الصالح لتحقيق تلك الأمنيات والأحلام.
الأحلام والأمنيات كثيرة، ولكن القليل هم الذين يدعون الله تعالى بالتميُز فى الدنيا والدين ليكون ذلك سبيلًا إلى الآخرة. «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»، وكذلك قوله تعالى «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». من هنا نفهم الدعاء العظيم «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا».
قال تعالى فى سورة الفرقان فى وصف من أوصاف عباد الرحمن: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا».
يقول العلماء: «كثيرون يرددون هذا الدعاء. وكثيرون يؤمّنون عليه بتأثر ورغبة. لكن كم مِن هؤلاء حققه وتمثله فى نفسه وبيته واقعًا حيًا؟! إن حقيقة هذا الدعاء قول باللسان، وتضرع إلى الرحمن، وتصديق بالحال والأفعال.
فكم من بيت صالح عمّ صلاحه من حوله، فأصبح مشعلًا للخير والدعوة، ومثالًا ونموذجًا وقدوة، تزدان مجالسه بالآداب الفاضلة ومكارم الأخلاق والكلمة الطيبة. وكم من بيت تمنى أهله الأمانى، ولكن قعدت بهم هممهم عن سلوك سبيل التقوى والإمامة!.
ربما يظن ظان أن هذا الوصف «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» بعيد المنال، وأنه يختص بأناس دون آخرين، ويتطلب العلم الغزير، مع أن بعض الناس قد يبلغ بصدق نيته وحسن خلقه من التأثير فى الناس ما لا يبلغه من يفوقونه علمًا وفقهًا.
فمن منا لا يتمنى هذا الشرف العظيم «الإمامة فى الدين».. إحدى صفات عباد الرحمن التى وعدهم عليها المنازل العالية فى الجنة؟! قال البخارى- رحمه الله- فى قوله تعالى: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا»: أئمة نقتدى بمن قبلنا ويقتدى بنا من بعدنا». وقال الحسن البصرى- رحمه الله-: من استطاع منكم أن يكون إمامًا لأهله، إمامًا لحيه، إمامًا لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيئًا يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب. ففى تفسير ابن كثير نقرأ معنى قوله تعالى: «واجعلنا للمتقين إمامًا» قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدى، والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا فى الخير.
وقال غيرهم: هداة مهتدين «ودعاة» إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا، وأحسن مآبًا، ولهذا ورد فى صحيح مسلم، عن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية».
أما فى تفسير الطبرى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» اختلف أهل التأويل فى تأويله، فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أئمة يَقْتَدِى بنا من بعدنا. عن ابن عباس، فى قوله: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» يقول: أئمة يُقْتَدَى بنا، أئمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيم: «إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا». وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للمتقين إمامًا: نأتمّ بهم، ويأتمّ بنا من بعدنا. وعن مجاهد، فى قوله: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» أئمة نقتدى بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا. وقال أيضًا، اجعلنا مؤتمين بهم، مقتدين بهم.
قال أبوجعفر: وأولى القولين فى ذلك بالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إمامًا يأتمون بنا فى الخيرات، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إمامًا، وقال: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» ولم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة، لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلانا إمامًا، كما يقال: قام فلان قيامًا وصام يوم كذا صيامًا. ومن جمع الإمام أئمة. أقول: لا بد من العمل الصالح لتحقيق الأحلام والأمنيات الكبيرة، وكما يقول الشاعر: ترجو النجَاة وَلم تسلك مسالكها ** إِن السَّفِينَة لَا تجْرِى على اليبس.
وللحديث صلة، وبالله التوفيق.