رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجسم الرئيسي لـ«صفقة القرن» كما بدا على الأرض


متى يمكن للفلسطينيين أن يقوموا بتغيير دراماتيكى، فى تعاطيهم مع قضيتهم. بالأخص فى تلك المحطة -شبه الحاسمة- التى يتم دفعهم إليها، وسحب كل الأوراق من أيديهم حتى يقفوا أمام «صفقة القرن» صفر اليدين، لا مجال للتفاوض على شىء، ولا هناك مساحات للحركة يمكن التعويل عليها.
الصفقة السرية التى لا يريد أحد الإفصاح عنها، بدت ملامحها الرئيسية للعيان خلال شهور مضت، فلا يوجد هناك وجود -ولو رمزى- للفلسطينيين فى القدس الشرقية، فالعاصمة الموحدة لإسرائيل تم إعلانها بالاعتراف الأمريكى ونقل السفارة رسميًا إليها. والمقابل الفلسطينى لها سيكون قرية «أبوديس» المحدودة المساحة، والتى ستشهد هى وبعض تخومها فى شرق وشمال القدس، انسحابًا إسرائيليًا أو بمعنى أدق إفساح لمساحة فقيرة من الأرض والقرى الفلسطينية، كى تصبح هى العاصمة الموعودة لكيان فلسطينى غير محدد الملامح السياسية.
لكن الكيان المنتظر محدد الملامح العسكرية والأمنية بدقة، حيث سيظل منزوع السلاح بالكامل، ويخضع للرقابة الإسرائيلية على مدار الساعة، ويمكن إصدار قرارات من تل أبيب واجبة النفاذ، مثل أحد تلك القرارات المصيرية التى تم إدراجها داخل بنود الصفقة، وهو إسقاط كامل «حق العودة» عن مواطنى هذا الكيان ممن هم فى الشتات منذ ٧٠ عامًا. ولم تغفل الصفقة كما هو واضح من الإشارات التى تومض كل فترة وجيزة، أنه ليس هناك تفكيك أو تقليص لمساحة مستوطنة إسرائيلية واحدة تم إقامتها على أرض فلسطين التاريخية، كما أن السيطرة على كامل «وادى الأردن» قد تم حسمها بصورة نهائية، وأدرج ذلك أيضًا مصحوبًا بالتصورات الإسرائيلية للانتشار العسكرى، الذى يضمن تأمين المستوطنات، وإحكام القبضة على الوادى كحدود شرقية نهائية لإسرائيل.
جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكى، عراب تلك الصفقة والممسك وحده الآن بأوراق اللعب كاملة، ذكر مؤخرًا فى أحد لقاءاته بتل أبيب وسط قادة إسرائيل المنتفخين بالزهو: «أنا أعتقد أن أبناء الشعب الفلسطينى، أقل اهتمامًا بالأمور التى يتحدث عنها السياسيون، من اهتمامهم برؤية كيف يمكن أن تعطى الصفقة لهم ولأجيالهم المستقبلية فرصًا جديدة، ووظائف أكثر وأفضل دخلًا، وآفاقًا أفضل للحياة». وهو هنا يتحدث عن الأموال صراحة، والتى ذكرها عشرات المرات خلال أسابيع قليلة مضت، البعض منها كانت بتلك الصيغة العامة لمجمل القضية الفلسطينية، وجزء آخر اختص به «قطاع غزة» على حدة باعتبار أن هناك جهات مانحة وجداول تمويل جاهزة، تنتظر من القطاع وضع توقيعه من أى من ممثليه من «حركة حماس»، كى تتدفق الأموال أنهارًا لانتشال القطاع من ضائقته المعيشية. والمسخرة الحقيقية، أن كل من قابل الرجل مؤخرًا خلال تلك الأحاديث المتناثرة فيما يخص «الصفقة»، خرج بيقين كامل أن جاريد كوشنر يتحدث عن قناعة كاملة، بأن الأموال هى السبيل الوحيد لحل القضية الفلسطينية، وهى وحدها الكفيلة بتعويض كل أنواع المطالب، التى تسببت فى هذه الحالة من الاحتقان الفلسطينى الذى لا يرى له ما يبرره، كما قيل!.
بالعودة لما رشح مؤخرًا من ملف الصفقة، خرجت مصادقة الكنيست الإسرائيلى على قانون «القومية اليهودية»، بمثابة وضع دستور جديد لدولة الاحتلال يعترف ويشرعن عنصريتها، ويدشن للوضع القانونى والسياسى الذى ستكون عليه إسرائيل، فى ظل ترتيبات المستقبل. ولم يخف نتنياهو الأمر بل كان أكثر وضوحًا فيما وضعته إسرائيل، كمحددات لهذا الوضع الجديد، عندما ذكر فى لقائه الأخير بترامب أمام المؤتمر الصحفى الذى بث على الهواء، فى رده على صحفى سأله عما إذا كان لا يزال يدعم حل دولتين، قال نتنياهو: «إنه يعتبر مصطلحات «دولتين» و«دولة واحدة» مجرد «توصيفات» سطحية، وإنه يفضل التعامل مع «الجوهر». وقال إن هناك «شرطين أساسيين للسلام. أولًا، يجب على الفلسطينيين الاعتراف بالدولة اليهودية.. ثانيًا، يجب أن تحتفظ إسرائيل فى أى اتفاق سلام، بسيطرة أمنية «مهيمنة» على المنطقة كلها إلى الغرب من نهر الأردن».
ماذا ينتظر الفلسطينيون، بعد كل تلك التفاصيل المتعلقة بـ«صفقة القرن»، هل ينتظرون مواقف الدول العربية، كما يرددون دائمًا، فى إجاباتهم عن مخططاتهم لمجابهة هذا الوضع وغيره أم ينتظرون هدية تأتى من السماء تنتشلهم من هذا التردى الذى يتناوبون عليه بنجاح مأساوى، منذ «اتفاقية أوسلو» وانقلاب القطاع على السلطة وترسيخ الانقسام والوهن. فقبل أوسلو المشئومة كانت مساحة الدولة الفلسطينية ستحدد وفق خريطة ١٩٤٧، باعتبارها خريطة الأمم المتحدة. لكن فى أوسلو، انتقل ياسر عرفات بمجرد جلوسه للتفاوض من خريطة ١٩٤٧ إلى خريطة ١٩٦٧. وقيل حينئذ إنه قد تنازل عن ٢٢٪ من مساحة الضفة الغربية، لكن الواقع اليوم يقول إنه تنازل عن ٢٢٪ من فلسطين التاريخية، وهو ما يعدل نحو ٥٠ ٪ من أراضى فلسطين التى اعترفت بها خطة تقسيم الأمم المتحدة. لذلك لم يجد نتنياهو حرجًا فى أن يعلن قبيل لقائه ترامب مؤخرًا، عن نيته التعامل مع ٦٠٪ من مساحة الضفة، التى وصفتها اتفاقية أوسلو بـ«المنطقة ج» وحددت لها تاريخ العام ١٩٩٨ لانسحاب إسرائيل منها، باعتبارها جزءًا دائمًا داخل الدولة الإسرائيلية وفق بنود «صفقة القرن»، ويتبقى للفلسطينيين مجموعة من الجيوب بالضفة، لا تتجاوز مساحتها ١٠٪ من مجمل أراضى الضفة الغربية التى يفترض كونها روح القضية الفلسطينية.
يبقى الجزء الأخير من «الصفقة»، الذى يشمل تصورًا أحاديًا لـ«قطاع غزة»، هذه البقعة العالقة اختياريًا فى فراغ انقسامها عن الضفة، سينزع عنها أى توصيف له علاقة بـ«التحرر الوطنى»، من خلال استبداله بكونها «قضية إنسانية» لذلك هى الأقرب لربط مصيرها بأموال التعويضات، ودرجة سخاء الأموال الجاهزة من المجتمع الدولى كفيلة بضمان صمتها. كما تقف قيادات الضفة «السلطة» مكبلة بالوهن وغياب البدائل، يظل لعاب قادة غزة «حركة حماس» يسيل فى انتظار الأموال التى يتم حشدها بمعرفة واشنطن وتل أبيب.