رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أين يقف نص المادة.. ومتى يبدأ عمل القانون؟



المادة التى نتحدث عنها هنا، هى استكمال لما بدأناه الأسبوع الماضى، حول المادة الثانية من الدستور بمناسبة الحكم الصادر من الإدارية العليا فى النزاع القانونى ما بين «الضباط الملتحين» ووزارة ‏الداخلية، وما قد أثار الانتباه حينها ليس الحكم فى حد ذاته، رغم ما يشوبه من غموض والتباس، دفع البعض لتفسيره باعتباره حكمًا ضد وزارة الداخلية، وهو ما جعل عناوين كل الصحف والمواقع تتداول ‏الخبر بصيغة إثبات لحق هؤلاء الضباط فى العودة لعملهم.‏
فى الوقت ذاته، فسره أصحاب الشأن «الضباط الملتحون» وفريقهم القانونى، كونه أعطى لوزارة الداخلية الحق فى سن القوانين واللوائح الانضباطية الداخلية، ويستوجب على العاملين فيها الخضوع ‏لمحدداتها، لذلك استقبل هذا الفريق الحكم من الزاوية العكسية تمامًا لما أشيع بعد صدوره، خاصة أنهم قرأوا، وهذا صحيح، أن المحكمة اكتفت فقط بالإشارة إلى جسامة العقوبة الانضباطية، باعتبارها ‏‏«تغليظًا» فى غير محله، وفصلت فى عدم جواز الجمع ما بين «مجلس التأديب» و«الإحالة إلى الاحتياط»، وهما عقوبتان وقعتا على الضباط فى واقعة واحدة، لكنها فى سطور حيثياتها لم تنزع عن وزارة ‏الداخلية حقها فى التعامل مع «المخالفة»، بمقتضى قوانينها ولائحتها الداخلية، وفق القاعدة المستقرة، التى تتحدث عن عدم جواز التعليق على الأحكام القانونية، والتى هى ذاتها القاعدة التى تحتاج إلى نقاش، ‏لن نناقش الحكم، وللإدارية العليا وجوب كل الحق باعتباره اختصاصها الأصيل، فى التعاطى والفصل فى تلك القضية بما تراه عادلًا ومحققًا للمصلحة العامة، ويكفى الحكم استقباله أو فهمه من طرفيه، ‏على هذه الصورة السالف ذكرها. لكن الذى استرعى الانتباه حقيقة، هو الحيثيات التى تم نشرها فور صدور الحكم، وهى التى استوجبت كتابة المقال السابق، وأظنه فيه ما يكفى من توصيف أو تناول ‏لبعض مما أثار قلقًا عميقًا لكل من طالعها.‏
تمحور ما طرحته، حول استغراق الحيثيات بشكل تفصيلى لقضية «إعفاء اللحية» من المنظور الفقهى الإسلامى، ونقل جدلية هذه المسألة لإسباغها على «فعل» هؤلاء الضباط، ومن هذا المربع انطلق ‏الحكم ليصوغ مكوناته النهائية الفاصلة ما بين الأطراف، وإن ظلت هذه النقطة هى محل مؤاخذتى على هذا النسق القضائى، إلا أن الواجب يقتضى أن أعرض ما جاءنى من ردود كثيرة، تعلن انحيازها ‏إلى قرار وزارة الداخلية بـ«فصل» الضباط من الخدمة، لكنها فى الوقت ذاته حاولت أن تفسر لى أن استغراق المحكمة فى الجدل الفقهى حول «اللحية»، إنما لجأت إليه المحكمة فى حيثياتها بهذا ‏التفصيل، للدرجة التى وصلت فيها إلى ذكر أحكام «ندب» و«نتف» اللحية وآراء القرآن والسنة حولها، باعتبار أنه المحكمة أرادت توضيح أن هؤلاء «الضباط» إنما سقطوا- سهوًا أو عمدا- فى قضية لم ‏يحسمها الفقهاء، خاصة أن القرآن الكريم لم يتضمن نصًا صريحًا قاطعًا فى شأنها. ‏
مع كامل احترامى لهذا التفسير، الوارد من القراء المحترمين، الذين تعاملوا مع المقال السابق و«القضية» بالجدية المقدرة، إلا أن حقيقة ما تناولته، أننى وجدت هناك مساحة واسعة من «التشويش» تقيد ‏العمل القانونى، لم أستسغ فيه أن تكون فقرة مبادئ الشريعة حاضرة بهذا الشكل، فى صدارة مشهد قانونى وانضباطى بامتياز، ينظم للعلاقة بين الموظف وجهة عمله، حيث اعتبرت أننى قد لا أحمل ‏وغيرى تحفظًا على الفقرة، لكن أتوقع أن تكون الشريعة فى مساحات خلفية «عليا» حاضرة بقوتها وضوابطها، فى مرحلة التشريع وسن القوانين وتنظيم عملية التقاضى، ولا يسمح باستدعائها فى غير ‏محلها، وعادة ما يجرى التمسح أو اصطياد بعض نصوصها لتعزير المتهم، كما هو شائع استخدامه من قبل المحامين الذين يرون الثقوب الهائلة، ما بين كونها «مصدرًا» رئيسيًا وبين إمكانية التلاعب ‏بالنصوص القانونية لصالح موكليهم.‏
يقينًا لا أحمل ضغينة من أى نوع لمادة الشريعة الإسلامية بالدستور، ولا لمن يعتبرها لا علاقة لها، بما نراه تشوشًا يستوجب الوقوف أمامه وتقييمه بشفافية، على قاعدة: هل لدينا نظام قانونى وقضائى ‏محكم يحقق ضمانة العدالة التى تنادى بها بل تفرضها الشريعة الإسلامية على أتباعها وتصونها لغيرهم؟.‏
إذا وصلنا للإجابة بـ«نعم»، فهذا يغلق حديثًا لا يرتاح الكثيرون لفتحه كونه يتناول مرفق العدالة، وما يلزمه من تطوير وتحديث شامل يتجاوز بكثير مسألة مادة الشريعة الدستورية، أما إذا جاءت النتيجة ‏بـ«لا»، أو بالقدر المقلق من التشكك، والذى يغلب على الجميع من المتعاملين أو المضطرين للجوء إلى القانون، فهنا لا يضيرنا أن نخضع الأمر برمته لإصلاحات جذرية، بقدر أهمية ما يمثله هذا المرفق ‏من أهمية بالغة فى ضبط إيقاع المجتمع والدولة وحقوق المواطن.‏
هناك مثال شهير جدًا، جرت وقائعه على مسافة زمنية قصيرة من استحداث مادة الشريعة بالدستور، وللمفارقة القدرية أن صاحبها هو صانعها، الرئيس الراحل أنور السادات، ففى عام ١٩٨٢ وما تلته ‏من أعوام أثناء المحاكمات التى جرت للتنظيم الإرهابى الذى اغتال السادات، وما استتبعها من الكشف عما سمى قضيتى «تنظيم الجهاد» و«الجماعة الإسلامية»، باعتبارهما من ملحقات عملية الاغتيال، ‏كونها كشفت الآلاف من أعضاء التنظيمين، ما جرى فى محاكمات الآباء المؤسسين لموجة إرهاب الثمانينيات والتسعينيات، والأحكام القضائية «المخففة» التى أثارت الدهشة حينها، علق عليها خبراء القانون ‏بتعبير موجز، بأن المتهمين وهيئات دفاعهم تفوقوا على المحكمة رغم عظم وخطورة جريمتهم واتهاماتهم، وذلك عبر سحب الهيئات القضائية إلى فضاء التأويلات الفقهية لوجوب الخروج على الحاكم، ‏لتوصيف الفعل بأنه استجابة أو فهم لأمر إلهى.‏
وهنا نكون أمام وجوب آخر للتساؤل: هل يمكننا الوصول إلى نظام قانونى وقضائى محكم يليق بنا ويضمن العدل الناجز؟. وكى نقطع طريق المتاجرة والتشويش، هل لنا أن نعلم أين يقف نص المادة ‏الدستورية، ومتى يبدأ العمل بنصوص وانضباط القانون؟.‏