رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلى اللَّهِ


يحتاج الإنسان العاقل أن يفكر فى المستقبل المناسب للحياة الدنيا وحياة الآخرة، على عكس الذين قالوا أو اعتقدوا أن الحياة الدنيا هى نهاية المطاف، ولو كانت هى نهاية المطاف فلماذا سميت الدنيا؟ المسلم والمؤمن يعتقد أن الإنصاف الكامل فى الآخرة ولا يمكن أن يكون فى هذه الدنيا، ويعتقد أيضًا أن المستقبل واسع وممتد إلى يوم الآخرة أو البعث، وهذا ما نقرؤه فى آيات سورة الحشر «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».
نرى هنا أن العمل للغد عند المسلم والمؤمن يمتد إلى يوم القيامة ولو طال، ولا يقتصر على خمسين أو على مائة سنة أو ألف سنة، كما يخطط أهل الغرب لمستقبلهم. ولكن للأسف الشديد بعض البلاد الإسلامية- عربية وغير عربية- لا تعمل بهذه المعايير والمقاييس، بل إن بعضها لا يخطط ولو لعام واحد رغم غرامهم بسورة سيدنا يوسف والسنوات السبع العجاف، والتخطيط البارع للخروج منها بالاستفادة من النعم والإمكانيات التى خلقها الله تعالى.
وهنا نقرأ بعض ما قاله أهل التفسير فى معنى الآية الكريمة «وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ»: ففى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»: (فستذكرون ما أقول لكم) أى: سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه، ونصحتكم ووضحت لكم، وتتذكرونه، وتندمون حيث لا ينفعكم الندم، (وأفوض أمرى إلى الله) أى: وأتوكل على الله وأستعينه، وأقاطعكم وأباعدكم، (إن الله بصير بالعباد) أى: هو بصير بهم، فيهدى من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدر النافذ.
وفى تفسير الطبرى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»: يقول الله تعالى ذكره مخبرًا عن قول المؤمن من آل فرعون لفرعون وقومه: فستذكرون أيها القوم إذا عاينتم عقاب الله قد حل بكم، ولقيتم ما لقيتموه صدق ما أقول، وحقيقة ما أخبركم به من أن المسرفين هم أصحاب النار.
وقال ابن زيد، فى قوله: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ)، فقلت له: أو ذلك فى الآخرة؟ قال: نعم. وقوله: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ) يقول: وأسلم أمرى إلى الله، وأجعله إليه وأتوكل عليه، فإنه الكافى من توكل عليه. وعن السدى فى قوله تعالى (وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ) قال: أجعل أمرى إلى الله. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) يقول: إن الله عالم بأمور عباده، ومن المطيع منهم، والعاصى له، والمستحق جميل الثواب، والمستوجب سيئ العقاب.
أما فى تفسير البغوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ» (فستذكرون ما أقول لكم) إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر، (وأفوض أمرى إلى الله) وذلك أنهم توعدوه لمخالفته دينهم، (إن الله بصير بالعباد) يعلم المحق من المبطل، ثم خرج المؤمن من بينهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه. وكذلك نقرأ فى تفسير السعدى معنى قوله تعالى «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد»:
«فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ» من هذه النصيحة، وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب، وتحرمون جزيل الثواب. «وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ» أى: ألجأ إليه وأعتصم، وألقى أمورى كلها لديه، وأتوكل عليه فى مصالحى ودفع الضرر الذى يصيبنى منكم أو من غيركم. «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ» يعلم أحوالهم وما يستحقون، يعلم حالى وضعفى فيمنعنى منكم ويكفينى شركم، ويعلم أحوالكم فلا تتصرفون إلا بإرادته ومشيئته، فإن سلطكم علىّ، فبحكمة منه تعالى، وعن إرادته ومشيئته صدر ذلك.
وكان من دعاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما فى الصحيحين: (اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ) هذا الدعاء الجميل لا يقتصر على الأفراد ولكنه للأمم والأوطان كذلك، وخصوصًا عندما تضيق السُبل وتكثر التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل الرياضية وغيرها. إن تفويض الأمر لله تعالى دليل على صدق النية وتعبير عن عجز الإنسان أو محدودية قدرته، بعدما يكون قد أفرغ كل الجهد.
وهنا علينا أن نذكر حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله فى قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت».
هدف الحديث إنما هو تحذير المسلمين من الاستمرار فى «حب الدنيا وكراهية الموت»، ويا له من هدف عظيم لو أن المسلمين تنبهوا له، وعملوا بمقتضاه؛ لصاروا سادة الدنيا، ولما رفرفت على أرضهم راية الأعداء، ولكن لا بد من هذا الليل أن ينجلى، ليتحقق ما أخبرنا به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى أحاديث كثيرة، من أن الإسلام سيعم الدنيا كلها، فقال عليه الصلاة والسلام: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر». وللحديث صلة. وبالله التوفيق.