رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدد.. الوجه الآخر للصوفية


ما إن تُذكَر كلمة صوفية أو تصوف حتى يرد إلى ذهن البعض كلمة «مدد»، وتظهر الصورة النمطية للمتصوف وهو يترنح فى حلقة الذكر، أو حتى نموذج «التكية» والمتصوفة الذين يأكلون ويشربون مجانًا من أوقاف التكية. وكثيرًا ما تظهر فى الأدب الشعبى شخصية المجذوب بملابسه المُرَقَّعة، وكلماته غير المفهومة.
وفى العقود الأخيرة شنَّت الفضائيات السلفية حملة شعواء ضد الصوفية والمتصوفة، ووصمت الصوفية بأنها بدعة وأنها خروج عن الإسلام الصحيح. وفى بعض الأحيان ربط شيوخ السلفية بين التصوف والتشيُّع، وأن حب آل البيت هو الطريق إلى نشر المذهب الشيعى.
هذه الصورة النمطية التى يتم ترويجها للصوفية تضع أيدينا على آفة خطيرة فى العقل الجمعى العربى، ألا وهى «الانحياز»، والنظر إلى الأمور من منظور «أبيض أو أسود»، وعدم إجراء نقاش عقلانى، والتعرف على الوجه والوجه الآخر، إنها أحادية الصورة والفكر. إنه من التبسيط المُخل اختزال حركات التصوف المختلفة والمتنوعة فى صورة نمطية واحدة، وأيضًا عدم تتبع وتفَهُم التاريخ الطويل للتصوف. ومع ذلك علينا أن نُقِّر بأن الصوفية مثلها مثل أى حركة دينية شعبية وسياسية مرت بالكثير من المتغيرات وربما ما يطلق عليه البعض بِدعًا وانحرافات.
إن مهمتنا هنا ليست تتبُع تاريخ الصوفية والمتصوفة، ولكن لفت الانتباه إلى الوجه الآخر المشرق للصوفية فى تاريخنا الإسلامى. إذ لا يلتفت البعض إلى الدور الهام الذى لعبه شيوخ المتصوفة فى الجهاد ضد الأعداء والدفاع عن البلاد. وفى مصر يروى لنا الأدب الشعبى قصة السيد البدوى، على ما فيها من خيال، أثناء الحروب الصليبية، وكيف تم تخليد هذا الدور عبر الأغنية الشعبية:
«الله.. الله يا بدوى جاب اليسرى»، أى الأسرى.
كما لم يلتفت البعض إلى أنه لفترات طويلة كان أغلب شيوخ الأزهر من المتصوفة. وحتى بالنسبة للنشاط الاقتصادى كانت كل طائفة حرفية أو تجارية تنتسب إلى طريقة صوفية، ما يفتح الباب واسعًا لدراسة التاريخ الاقتصادى والاجتماعى للصوفية.
من ناحية أخرى، لعبت الصوفية والمتصوفة دورًا هامًا فى نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة فى جنوب شرق آسيا وفى إفريقيا جنوب الصحراء.
وفى التاريخ الحديث كانت الحركات الصوفية من أهم حركات المقاومة ضد الاستعمار الأوروبى، إذ وقفت الحركة السنوسية فى ليبيا ضد الاستعمار الإيطالى، وما قصة عمر المختار إلا جزء من ذلك التاريخ. والأكثر من ذلك قاومت الحركة السنوسية الاستعمار الفرنسى البشع فى الجزائر، وأيضًا فى إفريقيا جنوب الصحراء. وفى السودان قاومت الحركة المهدية الاستعمار الإنجليزى فترات طويلة، وحُفِر ذلك فى الوجدان الشعبى السودانى حتى اليوم.
لا يمكن اختزال التاريخ الطويل للصوفية والتصوف فى صورة المجذوب أو التكية، أو وصمها بالبدعة والهرطقة، فمن المهم التعرف على الوجه الآخر للصوفية والمتصوفة فى نشر الإسلام، ومقاومة الأعداء، بل فى الاقتصاد والاجتماع والأدب الشعبى.