رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مراجعة النفس


يتحدث العلماء كثيرًا فى رمضان خصوصًا عن محاسبة النفس أو مراجعة النفس، ولكنهم أو ولكن معظمهم، يقصر محاسبة النفس على جانب العبادات من صيام وصلاة وقيام وأذكار وعمل الجوارح والقلب، والمعاملات أحيانًا، وكأن شهر رمضان، أو كأن العبادة انقطاع عن الدنيا وما فيها.
نعم إن شهر رمضان له أفضلية فى إنزال القرآن الكريم وفى نزول الوحى، وخصوصية ليلة القدر، والعاقل لا بد أن يستثمر هذا كله أحسن استثمار، ولكن عمارة الدنيا بالحق، وحسن تقديم الدين الإسلامى للبشرية من الأمور العظيمة. والواجبات الأساسية، قال تعالى: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».
حال الأمة، كما ترى أيها القارئ الكريم، لا يخفى على أحد، سواء من ينظر من اليمين أو من اليسار، وسواء من كان مسلمًا أو غير مسلم، وسواء أكان فى الحكم أو خارجه، وسواء أكان موظفًا أو عاملًا أو فلاحًا أو عاطلًا. لا يحتاج حال الأمة مزيدًا من الإيضاح، فالصورة مقروءة من الداخل ومن الخارج. وسواء أكانت دولًا غنية أو فقيرة الموارد أو كان المواطنون بالملايين أو بالآلاف حالها سواء بشكل عام.
حالنا كأفراد، وكدول، وكأمة، يستدعى الوقوف مع النفس، ويستدعى المراجعة فى رمضان خصوصًا حيث القرب من الله تعالى فى العبادة، أين نحن من ديننا وأين نحن من دنيانا؟ كم مر علينا من رمضان وأعياد.. وماذا جنينا منها؟ متى نخرج من حالنا هذا إلى حال أفضل نرضاه لأنفسنا ويرضى الله تعالى عنا به. ونكون بذلك خير أمة أخرجت للناس. المسافة طويلة نعم، ولكنها ليست مستحيلة، كما يظن القانطون واليائسون.
فكما أن المذنب يجب ألا يقنط من رحمة الله تعالى الذى يغفر الذنوب جميعًا. «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». فالمقصر فى أمر الدنيا يجب ألا يخاف من اقتحام المستقبل والعمل له. وكما يقولون الألف ميل تبدأ بخطوة. وكما أنعم الله تعالى على دول أخرى، وهى غير مسلمة بالسلام والتقدم، فعلينا أن نسعى لهذا ونحن مسلمون. فإن علم الله تعالى صدقنا معه عز وجل ومع أنفسنا فسيكون لهذه الأمة شأن آخر.
من كان منا سارقًا فليتوقف عن السرقة، ومن كان منا فاسدًا واعتاد الفساد، عليه عند المراجعة ومحاسبة النفس أن يتوقف عن الفساد. ومن كان ظالمًا فعليه أن يتوقف عن الظلم، ومن كان مرتشيًا فليتوقف عن الرشوة أخذًا أو عطاء. ومن كان زانيًا فليتوقف عن الزنا، ومن كان كسولًا فليتوقف عن الكسل، ومن كان عشوائيًا فليتوقف عن العشوائية وليتدبر قوله تعالى «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر». وقوله تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ». ومن كان مفتيًا فعليه أن يفتى بما يرضى الله تعالى، وإن أغضب السلطان أى سلطان، وليس الحاكم فقط أو الوزير فقط أو المحافظ فقط، كل سلطان، فالسلطان زائل.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الكثير من الآيات فى القرآن الكريم التى تشير أو تأمر بمحاسبة النفس، بمعنى أن يحاسب الإنسان نفسه. والمحاسبة تبدأ بل تصدر من التأمل فى هذه النصوص:
قال الله تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» ما أجمل هذا القول فى تحديد مسئولية الإنسان عن نفسه وأعماله حتى لا يلقى التهمة على الآخرين.
ونذكر هنا بعض ما قاله أهل التفسير فى معنى هذه الآية الكريمة، ففى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» أى: هو شهيد على نفسه، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى: «اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا».
وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس: «بل الإنسان على نفسه بصيرة» يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه.
وقال قتادة: شاهد على نفسه. وفى رواية قال: إذا شئت - والله - رأيته بصيرًا بعيوب الناس وذنوبهم غافلًا عن ذنوبه، وكان يقال: إن فى الإنجيل مكتوبًا: يا ابن آدم، تبصر القذاة فى عين أخيك، وتترك الجذل فى عينك لا تبصره.
أما فى تفسير البغوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَة»: قال عكرمة، ومقاتل، والكلبى: معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يراقبونه ويشهدون عليه بعمله، وهى سمعه وبصره وجوارحه ودخل الهاء فى البصيرة، لأن المراد بالإنسان هنا جوارحه، ويحتمل أن يكون معناه «بل الإنسان على نفسه بصيرة» يعنى: لجوارحه، فحذف حرف الجر كقوله: «وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم» أى لأولادكم. ويجوز أن يكون نعتًا لاسم مؤنث أى بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
وقال أبوالعالية، وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهى رواية العوفى عن ابن عباس، والهاء فى «بصيرة» للمبالغة، دليل هذا التأويل. قوله عز وجل: «كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا». وكل عام وأنتم بخير. وللحديث صلة. وبالله التوفيق.