رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الإنسان».. حان الآن وقت الأذان بتوقيت كامل الشناوي

الكاتب الصحفي كامل
الكاتب الصحفي كامل الشناوي

نشأت مُتعلقًا بروائح الزمن الجميل؛ ذاك الزمن الذي كان فيه سمو الأخلاق أصلا وليس استثناءً، والجمال أصلا لا فرعا، والمجد يصنعه القلم دون أن يكون حكرًا على القدم.

ولما كان مولدي تاليًا لتلك الحقبة الجميلة، ولم أجد مفرًا إلا اللجوء إلى سينما «الأبيض والأسود»، يستعيد معها بصري ذكريات تلك الأيام الخوالي، وانغمست بصيرتي تطالع كل فنون السير الذاتية، وتحديدًا تلك المتعلقة بالشخصيات التاريخية ومشاهير القلم الكتّابة.

بين أضواء الشاشة وصفحات الكتب، كان قاسمًا مشتركًا، تجده دائمًا من أصحاب المقام الرفيع والسيجار الفخيم، يلفت انتباهك دومًا بأنه النجم الأبرز وسط كوكبة النجوم، والأظرف بين ظرفاء عصره، تعلق قلبي وعقلي بتلك الشخصية الفريدة.

أصبحت كما الهائم في رحاب كلماته أبحث عن مقالاته وإبداعاته، في وقت لم تكن محركات البحث المعروفة بـ« جوجل» قد أينعت ثورتها، وكانت مناهل المعرفة تقتصر على الجريدة والكتاب.

بعد رحلة طويلة من البحث، لم أعثر إلا على الفتات من سيرته، وبعد أن أضناني البحث، رفعت راية العصيان، وقررت أن أنصرف بذهني وعقلي ووجداني إلى عوالم أخري، وبدا لي ذلك الرجل الذي حسبته شخصًا «كامل الأوصاف» أحد الأساطير والأساطين الذي لم تأخذ حقها، ولم تخلد سيرته كما ينبغي.

مضت السنوات ودارت الأيام دورتها، حتي جاء العام 2006، كنت وقتها ما زلت مُتابعًا للدراما التليفزيونية خلال شهر رمضان المعظم، وكان معظم الفضائيات العربية تُقدم علي شاشتها مسلسل «العندليب»، والذي كان يتناول السيرة الذاتية لأسطورة الغناء المصرية عبدالحليم حافظ، ومع توالي الحلقات، عاد من جديد الرجل ليظهر كإحدى العلامات الفاعلة التي أسهمت في رواج ظاهرة «العندليب الأسمر».

عندها تبدي بي الشوق القديم، وحاولت ممارسة هوايتي الأولى في إعادة اكتشاف عوالم تلك الرجل الخفية، لكن بحكم ارتباطي بالدراسة وقتها في المرحلة الثانوية، لم أستكمل هذا المشروع المؤجل، لأعود من جديد بخُفي حنين، وكان عزائي الوحيد حينها هو ذلك الوعد الذي قطعته على نفسي بأن أستكمل ذلك العمل المؤجل وقتما تسنح الظروف.

لكن يبدو أن المقادير كان لها رأي آخر، ففي زحمة الأحداث وتوالي المسئوليات، غاب ذلك الموضوع عن ذهني، ولم يبرح تفكيري تلميحًا أو تصريحًا، وكأنما كانت الأحلام أوهام خيال، أو سحابة صيف عابرة، إلى أن جاء العام 2011 رافعًا شعار «حان الآن وقت الأذان حسب توقيت كامل الشناوي».

الأذان الذي أقصده هنا، كان ذلك النداء الذي أعادني من جديد لقراءة ذلك الرجل الذي لا مثيل له المعروف بـ«كامل الشناوي»، عندما وقعت في يدي آنذاك مذكرات الراحل «أنيس منصور»، وتحديدًا جزء «أعجبني هؤلاء»، والذي تناول من خلاله سير أعلام النبلاء من مشاهير الفن والصحافة والثقافة.

عندما أتى «منصور» على سيرة أستاذه كامل الشناوي، تحاشي الخوض في إبراز عبقرية قلمه وروعة كلماته، لكنه فقط اختار أن يبرز إنسانيته وشهامته ووفاءه، وسط كل ما كتبه صاحب «حول العالم في 200 يوم»، توقفت أمام حديثه، عندما روى كيف اصطحبه «الشناوي» ذات ليلة وتحديدًا عند منتصف الليل لزيارة سيدة من معارفه القدامى، أصيبت بمرض الشلل اللعين وأقعدها المرض، فكان مداومًا على زيارتها وهو محمل بالهدايا، وعندما انتهي اللقاء، خرج من عندها باكيًا.

الأمر ذاته تكرر من إحدى السيدات، التي كانت يومًا ما واحدة من سيدات المجتمع الراقي، اخترقت عالم الفن وأصبحت من أهل الحظوة والسلطة، قبل أن تنقلب أمور حياتها رأسًا على عقب، وتعود لحياة الفقر، ليتخلي عنها الجميع، عدا ذلك الرجل الاستثنائي «كامل الشناوي»، والذي لم يقطع قدماه من عندها، مقدما يد العون.

استوقفتني وقتها تلك النقاط، وبدت أمامي الحقيقة الكاملة، لم يكن شوقي القديم بتلك الظاهرة الفريدة، نابعًا من فراغ، لكنه فقط صبغ مسيرته بإنسانيته، فاستحق الخلود داخل رحاب بلاط الجلالة، لأن الحقيقة المجردة تقول «إنه من أحب وأوفي، لا ينسي ولا يُنسي».

والسيرة الذاتية للشاعر والكاتب الصحفي كامل الشناوي، تقول إنه من مواليد عام 1908 لإحدى الأسر العريقة بمحافظة الدقهلية، فوالده كان يعمل رئيسًا للمحكمة الشرعية، وعمه كان الشيخ «محمد مأمون الشناوي» شيخ الأزهر الشريف السابق.

التحق «الشناوي» بالأزهر لمدة 5 سنوات، دارسًا للعلوم الشرعية، قبل أن ينتقل للعمل في الصحافة، وكانت نقطة الانطلاق من داخل جدران جريدة «الوادي» والذي كان يرأس تحريرها آنذاك عميد الأدب العربي «طه حسين».

لا يمكن أن تخوض في سيرة «كامل الشناوي»، دون أن تعرج أو تتطرق إلي قصة حبه الشهيرة للمطربة «نجاة»، والذي كان عشقا من طرف واحد، يبادله الإعجاب فتجيبه بالإعراض، يهمس لها بالعشق
فتصدمه بالرفض، وهو ما جعله يسطر واحدة من أروع قصائده المعروفة باسم «لا تكذبي».

نظم «الشناوي» تلك القصيدة لعلها تحرك قلب «نجاة» المتمرد على حبه، فإذا بها تمنحه صك العناد، وهو ما وصفه الكاتب الكبير مصطفى أمين في مقال شهير له بأنه أعطي لتلك المرأة كل شىء، ولم تمنحه شيئا، مستطردًا: «كانت تجد متعة في العبث معه، يومًا تبتسم وآخر تعبس، تطلبه في الصباح ثم تنكره في المساء، واستمرت لعنة الحب الفاشل تطارده وتعذبه، حتي مات الشناوي».

رحل كامل الشناوي عام 1965، عن عمر يناهز 56 عامًا، تاركًا خلفا سيرة لا تفني ومسيرة لا تخطئها الأعين.