رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لصوص الحضارة.. كيف دمر «داعش» آثار سوريا؟

جريدة الدستور

إذا أردت أن تستأصل شعبًا، شوّه تاريخه ودمر ثقافته واهدم آثاره قبل أن تقتل رجاله ونساءه وأطفاله.. ٧ سنوات من الخراب والدمار طالت البشر والحجر، عمدت فيها التنظيمات التكفيرية وعلى رأسها «داعش»، الذى أقام دولته المزعومة فى الشام والعراق، إلى تدمير كل ما طالته يده من تراث سورى يعود إلى آلاف السنين، وما بقى لم يسلم من جحيم القصف المستعر.
وصف «داعش» للآثار بالأصنام وتحطيمها، وتعمده تصوير مقاطع «فيديو» أثناء تنفيذه الجريمة، لم يمنع أن تكون تجارة الآثار أحد أهم مصادر تمويله، إذ ينهب ما حوته المتاحف من قطع تجارة بمئات الملايين من الدولارات لبيعها فى السوق السوداء.

4500 موقع أثرى خضعت لسيطرة التنظيم.. ومنح السكان تراخيص تنقيب بمقابل ‪%‬20 من العائدات
محمد نظير عوض، معاون المدير العام للآثار فى سوريا، ومدير شئون المتاحف، والذى عمل أيضًا فى مبنى مدير المبانى التاريخية للمواقع الأثرية، بالمديرية العامة للآثار والمتاحف، كشف فى حديثه لـ«الدستور»، عن حجم الضرر الذى لحق بالتاريخ الثقافى والحضارى السورى، علاوة على تجارة «داعش» فى الآثار السورية منذ ٢٠١١ حتى الآن مع سيطرة المسلحين على محافظة إدلب.
أشار إلى أن تقديرات «اليونسكو»، تؤكد بيع ممتلكات هذه المعابد والمتاحف ببلايين الدولارات، إذ يوجد ٤٥٠٠ موقع أثرى بما فيها مواقع مسجلة فى قائمة التراث العالمى خضعت لسيطرة «داعش» فى سوريا والعراق.
وأكد عوض أنه بعد نجاح الجيش السورى فى استعادة السيطرة على أغلب المحافظات السورية، بدأت مديرية الآثار فى حصر الخسائر وإعداد قوائم بالقطع الأثرية التى هُرّبت، مشيرًا إلى أن صور الأقمار الصناعية أظهرت إزالة بعض المدن الأثرية بشكل كامل، كما أظهرت الكثير من الحفر العميقة، التى تؤكد تنفيذ عمليات تنقيب جائرة فى مناطق مثل دير الزور، دورا أوروبوس، ومارى، وتل الشيخ حمد، وحلب وتدمر، ومدينة حماة.
وقال إن التقارير تشير إلى مئات الآلاف من القطع الأثرية السورية هُرّبت وطرحت للتجارة فى السوق السوداء، مضيفًا: «ملف معقد، ونعمل عليه مع منظمات دولية عدة على رأسها اليونسكو، وفريق من القانونيين لإعداد الملفات اللازمة واتباع الطرق القانونية والدبلوماسية لاسترداد القطع الأثرية السورية».
وأكمل عوض: «عقب تحرير المحافظات من التنظيمات الإرهابية، فإن السكان أكدوا أن داعش استولى على الآثار عبر منح تراخيص التنقيب للسكان المحليين، وأعطى للمنقبين نسبة تتراوح بين ٢٠ إلى ٥٠ فى المائة من العائدات، قبل أن يشترى معدات البحث والتنقيب والاعتماد على عناصر تابعة له لأعمال التنقيب».
وأشار إلى أن القطع المهربة وجدت طريقها عبر الحدود مع تركيا ولبنان، ومررت معظمها إلى أوروبا وألمانيا وسويسرا، كما أن آلاف القطع ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، موضحًا أنه يتم تتبع قطع أثرية ظهرت فى مزادات للآثار فى كمبوديا وتركيا ونيويورك.
وكشف عن سرقة وتهريب ٥ آلاف قطعة أثرية من متحف الرقة، مؤكدًا أنه مع تداعيات الأزمة، فرغ متحف الرقة من كل القطع الأثرية ووضعت داخل البنك المركزى. وقال عوض: «لا نعرف الكثير عن متحف إدلب حتى الآن نظرًا لسيطرة المسلحين على المدينة، ولكن تشير التقارير إلى أن متحف إدلب الذى لم نستطع نقله نظرًا لظروف تتعلق بطبيعة الطريق والبُعد الجغرافى للمتحف، من أهم المتاحف السورية وتعرضه للسرقة بشكل كامل يعد كارثة حقيقية».
وكان المتحف يحتوى على مئات القطع الأثرية والمخطوطات والمعروضات الفلكلورية والزجاجيات واللوحات الجدارية والتماثيل والنقود التى تعود لعصور قديمة وزخارف ولوحات فسيفساء.
كما هُربت عشرات القطع الأثرية من منطقة ريف دمشق خلال خروج المسلحين والنازحين من منطقة حرستا وجوبر، والتى كانت خاضعة لما يعرف بـ«جيش الإسلام» و«فيلق الرحمن»، وذلك بعد تدمير معبد «النبى إلياس» اليهودى، والذى يبلغ عمره ألفى عام، ويعد أحد أقدم المعابد اليهودية فى العالم.
وألقى القبض على فردين من التنظيم الإرهابى، عثر بحوزتهما على نسختين نادرتين للتوراة منقوشتين على جلد غزال، ومطرزتين بالذهب وأحجار الزمرد والياقوت، أثناء محاولة بيعهما بمليونى دولار.

مكتب الاسترداد يتتبع القطع المهربة عبر «فيسبوك»
فى إطار محاولات استرداد القطع، يقول عوض: «أنشأنا حديثًا ما يعرف بمكتب الاسترداد، وهو مؤلف من مجموعة من الفنيين والقانونيين يجوبون فى المحافظات السورية، للعمل على متابعة القطع الأثرية، وتتبع وجود القطع فى الأسواق السوداء واستردادها، وإنشاء قاعدة بيانات رقمية بالقطع المفقودة، كما أن المكتب مَعْنِى بمتابعة كل المواقع وصفحات التواصل الاجتماعى التى تعرض القطع الأثرية للبيع، أو لعقد مزادات».
ولكن يقول عوض إن هناك عقبة تواجه تتبع بعض القطع، وهى أنها من «التنقيب الجائر»، الذى نفذته التنظيمات الإرهابية، ما يجعلها غير مسجلة، مشيرًا إلى أنه تم استرداد ٨٥٠٠ قطعة، غير مسجلة كانت لا تزال داخل سوريا، من خلال مجهودات الجيش ومؤسسات الدولة.
على الرغم من صعوبة الوضع وفداحة الخسارة، فإن التجربة السورية فى حماية المتاحف والمقتنيات الأثرية ناجحة جدًا، على الرغم من الظروف الصعبة وقد أثنت الكثير من المؤسسات الدولية عليها، على حد تعبير عوض.
وأضاف أنه قبل الأزمة أنشأت المديرية العامة للمتاحف والحكومة السورية، العديد من المتاحف فى أغلب المحافظات السورية، ومنها متاحف كانت قيد الإنشاء مثل متحف الحسكة، وكان متحف حلب واللاذقية وحمص من أهم المتاحف السورية، وأيضًا متاحف المحافظات الجنوبية.
مع بداية الأزمة وتفجرها فى أماكن عدة بشكل مفاجئ، كانت تداعيات الأحداث سريعة، ما دعا إلى قيام المديرية العامة للآثار والمتاحف بدعم من وزارة الثقافة إلى نقل أغلب مقتنيات المتاحف إلى أماكن آمنة.
ونقلت محتويات متحف حلب تحت القصف، وفى ظروف أمنية فى غاية الصعوبة، تحت حماية الجيش السورى، كما نقلت مقتنيات متحف دير الزور بشكل آمن، وصناديق القطع الأثرية من دير الزور على متن طائرة عسكرية. أيضًا أنقذت ٨٥٠ قطعية أثرية مهمة ومميزة من منطقة تدمر، فى ظروف أمنية صعبة وتحت زخّات من الرصاص والقصف.
أيضًا نقلت قطع أثرية من حماة ومن الجنوب السورى، وزودت المتاحف بإجراءات أمنية من تحصين أبواب وتركيب شبكات تصوير للمراقبة، أيضًا بتأمين الحدائق المحيطة بالمتاحف، بحيث لا تتأثر بسقوط القذائف.

مدن أثرية دُمّرت بالكامل.. وخطط الترميم والصيانة تحتاج إلى دعم فنى ومالى
المحور الثانى المواقع الأثرية السورية المنتشرة على كامل التراب السورى، المدن التاريخية مثل حماة وحمص وحلب ودمشق إلى مواقع تدمر، وهى أماكن طالتها العديد من الأضرار، وقال عنها عوض: «نتواصل مع العديد من الجهات الدولية للحيلولة دون تعرضها للأذى، والنهب، كما نتواصل مع النخبة المجتمعية وأيضًا الحراس والفنيين فى تلك المواقع، مستدركًا أن المواقع التى خرجت عن سيطرة الجيش والدولة خلال السنوات الماضية، تعرضت إلى عملية تخريب كامل وممنهج».
وأكد عوض أن ضررًا كبيرًا لحق بالمدينة الأثرية، مشيرًا إلى أن المدينة تعرضت للتدمير على مرحلتين، «وقد خسرنا مواقع مهمة جدًا فى مدينة تدمر».
وتدمر هى إحدى أهم المدن التاريخية، حيث كانت عاصمة مملكة تدمر، ودمر فيها المسرح الرومانى، واستخدم كساحة للإعدامات، وموقع كقواعد لإطلاق الصواريخ، كما دمر متحف بعل شمين، بعد حصار دام شهرًا للموقع الأثرى.
ويشير عوض إلى أن الخسارة أيضا كانت على المستوى البشرى، بعدما أعدم داعش الخبير الأثرى، خالد أسعد، ٨٢ عاما، الذى شغل منصب مدير آثار تدمر منذ عام ١٩٦٣ حتى ٢٠٠٣، إذ اتهمته «داعش» بالوثنية وأعدمته بسبب رفضه كشف الكنوز التى تحتوى عليها المدينة.
وعمد التنظيم إلى تدمير قوس النصر، ومعبد بل، وهو إله بابلى أكادى الأصل، وهو يمثل فى الديانة البابلية رب الأرباب، وهو من أجمل المعابد فى الشرق.
وطال التدمير المدافن البرجية، حيث آمن التدمريون بالحياة بعد الموت. لذلك أطلقوا على المدافن اسم «بيت الأبدية»، وكان لكل أسرة مدفنها الفخم المزخرف بالجص أو الحجر، هى أقدم المدافن، ومعظمها يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. كانت بسيطة وفى بداية القرن الأول الميلادى، بدأت العناية بها، فصارت تزخرف من الداخل والخارج. وعادة ما تكون مربعة الشكل مبنية فوق مصطبة لها أدراج.
يقول عوض: بذلنا مجهودًا كبيرًا فى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المدينة العريقة، وقد نجحنا فى إنقاذ منحوتة إسدالات التى أقدموا على تكسيرها وتدميرها، لكننا نجحنا بترميم هذه القطعة الأثرية ووضعها فى المتحف الوطنى، بالتعاون مع اليونسكو، وهو التمثال الموجود منذ القرن الأول قبل الميلاد، والذى كان يعتبره الإخشيديون إله «مقت العنف».
واحتلت «داعش» المدينة من يوليو عام ٢٠١٢ إلى ٢٠١٦، وخلال أربع سنوات عمدت الجماعات الإرهابية إلى تدمير القلعة التى تعود للقرن الـ ١٣، والمسجد الكبير الذى بنى فى القرن الثانى عشر، والكنائس المسيحية التى تعود إلى القرن السادس عشر، أو المساجد والقصور العثمانية التى يعود تاريخها المعمارى إلى العصر اليونانى والرومانى، كذلك مدينة حمص، وقد وصلت تقارير مؤخرًا من دير الزور، بوجود أضرار بالغة بالكنائس والجوامع.
هناك خطط ودراسات عديدة للبدء فى إعادة ترميم وصيانة المواقع الأثرية المدمرة، ولكن مع الأسف يلزمنا الكثير من الأموال والدعم الفنى، يكشف عوض عن أن المشروع الأول على لائحة مديرية الآثار، هو إنقاذ مدينة تدمر، حيث إنها مسجلة على لائحة التراث العالمى، ويجب أن تشارك مؤسسات دولية فى عملية الترميم.
وأضاف أن هناك وعودًا من الجانب الروسى، والذى يعود له الفضل فى تحرير المدينة مع الجيش السورى ومشاورات وزيارات بين موسكو ودمشق فى إطار مشروع ترميم تدمر بالتعاون مع يونسكو، ونحن فى المديرية العامة للآثار لدينا أمل كبير فى حشد الجهود الفنية والمالية للعمل.
أما عن ترميم مدينة حلب، فيقول عوض: «بدأت الفرق الفنية تجوب المدينة القديمة لوضع التقارير اللازمة حول الأضرار ونسبها، جرت عملية إدارة للأنقاض الأثرية للمحافظة عليها وكثير من المدنيين عادوا للحياة، وزارة الثقافة ومنظمات أخرى كمنظمة الأغا خان، وقد أبرمت اتفاقية لترميم قلعة حلب، وهناك أيضًا أعمال فى الجامع الأموى، وننتظر الأموال اللازمة للبدء فى كل دراسات الترميم والصيانة».