رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيري يكتب: «سي عبده».. قراءة مختلفة في قصة محمد عبدالوهاب «2-2»

محمد العسيري
محمد العسيري


- الملك عبدالعزيز أنقذ عبدالوهاب من مصادرة أملاكه بأمر الثورة
- وزير وفدى أخفى الموسيقار فى منازل عائلته بالصعيد.. وعبدالوهاب سانده فى الانتخابات بأغنية دعائية


لقد شوَّح النحاس فى وجه محمد عبدالوهاب لأنه يتذلل لمحبوبته وهدده بمنع أغنياته بأمر حكومى.
وهدده الملك فاروق بالقتل.. وقرر مجلس قيادة ثورة يوليو تحديد إقامته ومصادرة أملاكه.. فكيف نجا الرجل من كل ذلك؟ كيف تخفى محمد عبدالوهاب، الذى كان اسمه محمد البغدادى، والذى أخفى خبر زواجه عشر سنوات كاملة- عن ملاحقة السلطة فى عصور «الملكية والجمهورية معًا».
وقد يسأل أحدهم: وهل كان هناك مطربون آخرون يعارضون ذلك النظام؟! وقد يتشدد البعض ويرى أن كثيرًا من المطربين وقتها كانوا يحبون الملك فاروق.. وفؤاد. ودون مناقشة، سأجيب: نعم.
تعاطف بعض أصحاب المصالح مع الملك.. وبعض البسطاء أيضًا ولفترة وجيزة.. لكن الشارع الذى كان يغلى كان أكبر من ذلك التعاطف الذى لم يدم طويلًا.
لكن عبدالوهاب الذى رفض أن يصعد مسرح منيرة المهدية قبل أن يحصل على أجره كاملًا وبالطريقة التى يراها تناسبه.. عبدالوهاب الذى رفض السفر إلى سوريا وخالف رغبة عبدالناصر لمجرد أنه لا يحب «الطيران».. وقد تم أخذه للمطار عنوة.. كان يستطيع أن «يتخفى».. لكنه لم يفعل.

فى عام ١٩٢٩.. حدث ما سماه أهل الاقتصاد «الكساد العالمى الكبير».. وتأثر العالم كله بما جرى.. وكان من الطبيعى أن تتأثر مصر، وانتشرت الأزمة على حوائط المدن.. أما فى الريف فقد «تفشت البطالة.. وعمت السرقات.. وكثر الشحاذون وانتشرت بيوت الدعارة وانتشرت ظاهرة التبشير فى ظل احتلال يشجع كل ذلك».
وأعلنت الحكومة فى أوائل الثلاثينيات «تعريفة جمركية حامية حملت السلع الضرورية رسومًا عالية.. فأصبحت عبوة السكر بـ١٩٠ قرشًا بعد أن كانت تباع بـ١٢٣ قرشًا.. ووصل سعر صفيحة الكيروسين إلى ١٢ قرشًا بعد أن كانت بخمسة قروش.. وارتفعت أسعار الحاصلات الزراعية، خاصة القمح، الذى أصدرت الحكومة رسومًا حامية لسوقه، فيما عرف وقتها بقانون القمح حيث تم فرض رسوم على المستورد منه بنسبة ١٧٪.
وباظت وجابت جاز لدرجة أن ديوان المحافظة أصبح به رئيس لقسم مكافحة الغلاء.. وكان أول نشاط لهذا القسم هو الاتفاق مع الجزارين فى القاهرة لبيع اللحوم بأسعار معقولة بعد أن استعصى على الناس الحصول عليها.. ثم كان أن اكتفت وزارة الداخلية بذلك القسم لتقليل النفقات فى سبتمبر ١٩٣٠.
واستمر الحال فى العام التالى.. وزاد سوءًا فى العام الذى يليه ووصل سعر إردب الذرة، حسب مراسل صحيفة «الأهرام» بكفر الشيخ عام ١٩٣٣، إلى ١٤٠ قرشًا بعد أن كان بـ٥٠ قرشًا.. وما لا يعرفه الكثيرون أن أهالينا فى الأرياف كانوا لا يخبزون العيش من القمح، ولكن من «الذرة».. وهو ذلك الذى يعرف بـ«البتاو القيدى».. أو «القنيطى» لأن حصاده يتم فى «قنط الصيف».
وتصف «الأهرام» حال الريف فى ذلك العام بأنه «الشتاء فى كل مكان والضائقة المالية أنزلت بالناس الكوارث فأنستهم تاريخ السياسة، فبات الناس لا يفكرون ولا يتحدثون إلا فى دفع الأموال الأميرية.. وضرائب مجالس المديريات وتسديد أقساط البنوك.. وتدبير مصروفات المدارس التى وصلت إلى «تسعة جنيهات» وهو مبلغ كبير جدًا فى تلك الأيام، مما دفع أحد أعضاء المجلس الحسبى لمديرية الدقهلية إلى اقتراح اقتطاع ثلاثة بالمائة من رواتب الموظفين تحت مسمى «رسم دمغة الطلبة» ليساعد وزارة المعارف على تخفيض الرسوم الدراسية للطلبة.
ورغم ذلك.. ورغم أن الوزارة قامت بتقسيط الرسوم إلا أن الأهالى عجزوا عن سدادها.. فقامت المدارس بفصل الطلبة.
فى ذلك الوقت الذى كانت الحكومة تفصل فيه طلاب الأرياف لأنهم غير قادرين على دفع المصاريف.. وقف فى قاعة الجولدن هول بلندن سير اسمه «صمويل هور» وكان وزيرا للخارجية فى حكومة بريطانيا، ليقول إن دستور ١٩٢٣ لم يعد صالحًا للعمل به فى مصر.. وإن دستور ١٩٣٠ صدر دون إجماع الأمة- مش عارف أنهى أمة اللى بيتكلم عنها السير البريطانى- وفى نفس اليوم الذى كانت تحتفل فيه الحكومة بعد ذلك التصريح بخمسة أيام بعيد الجهاد، خرجت مظاهرات عارمة من طلاب الجامعة الذين انضم إليهم طلبة المدارس من «التجارة والسعيدية بالجيزة» وانطلقوا إلى كوبرى عباس يهتفون بسقوط الحكومة التى أرسلت جنودها الذين حاولوا منع الطلاب من عبور الكوبرى بالنار، فسقط الجرحى والشهداء، وفى مقدمتهم محمد عبدالحكم الجراحى ومحمد عبدالمجيد مرسى.. وقام زعيم الشباب ابن مطوبس «محمد بلال» ونور الدين طراف، الذى أصبح وزيرًا للصحة فيما بعد، بسرقة جثة زميلهما طه عفيفى وأخفياها بمدرج المحاضرات وأجبرا مصطفى النحاس على إقامة جنازة شعبية لشهيد الطلبة.

فى هذه الأجواء، ماذا يفعل عبدالوهاب الذى كان يتخفى يوميًا ليذهب إلى زوجته السرية.. ماذا يغنى.. هل يذهب لمناصرة الطلبة ضد مصطفى النحاس الذى هدده بمنعه من الغناء لو عاود الغناء بتذلل للحبيبات؟!.
فى البداية سافر عبدالوهاب إلى دمشق فى رحلة راح يبحث فيها عن «موسيقى جديدة».. و«عن نفسه التى لم يكن قد وجدها بعد».. وهناك غنى كثيرًا، ومن بين ما غنى أغنية تقرب من عالم السياسة لكنها لا تقتحمه كما هى عادته وكما هى عادة أشعار أحمد شوقى سواء بالفصحى أو العامية:
«كان يوم مقدر لعبتـــــــــه الأقدار
ومين يرد الفلك، مين يمنــــــــــعه إن دار
قالوا الحريق: قلت فى الجنة تقواوا النار؟
يابنت مـــروان كووا قلبــــــــــك ودى ناره
عاللى ماتوا كرام تحت العلم.. أحــــــــرار».



بعدها بسنتين، وحسب عبدالوهاب نفسه فى حديث لمجدى العمروسى: «ابتديت أفكر فى حاجات تانية.. عملت فى (الليل لما خلى) بمناسبة افتتاح الملك فؤاد لمعهد الموسيقى.. وبمناسبة مجىء ملك الأفغان أمان الله خان.. وحضر مع الملك فؤاد.. ودى كانت الحاجة المهمة جدًا فى عالم الموسيقى، وبدأت أقفز إلى هذا النوع من الغناء الحر».


عبدالوهاب إذن فى ذلك الوقت لم يكن يفكر سوى فى الموسيقى.. لم تكن جماعية ألحان سيد درويش تستهويه.. كان يبحث عن أن يكون مطربًا فردًا.. ويكمل الرجل:
«إدانى شوقى (يا شراعًا وراء دجلة) ورحت غنيتها فى العراق.. وأنا رايح كنت بحلم إنى أشوف عاصمة العباسيين وهارون الرشيد.. طلعت روحى من الحر.. رحت القصر الملكى وقابلت السكرتير.. كان اسمه تحسين قدرى.. إديتله جواب شوقى بك اللى فيه القصيدة.. وطلبت ميعادا لمقابلة جلالة الملك.. فقالى لا.. ميعاد إيه تعالى خش قابله.. وراح فاتح الباب.. لقيت الملك قالع الجاكتة وحاطط الفيصلية على راسه.
المهم وأنا قاعد بعدها فى القصر قعد جنبى واحد سألنى عن اللى شفته.. قلت إنى كنت فاكر إنى هشوف العباسيين والعز وإسحاق الموصلى و.. لقيت حر وقرف وتراب.. ما عرفش إيه اللى مقعد الملك هنا.. شوية واتصدمت لأن اللى كنت بكلمه هوه ولى العهد غازى.. وعرفت إنى هاموت.. وقلت للى واخدنى عايز أهرب فهربونى فى عربية الساعة ٤ الفجر.


وكان من الطبيعى أن يهرب عبدالوهاب من عالم السياسة.. مرة يغضب منه النحاس.. ومرة ولى العهد فى العراق.. طب يعمل إيه؟! وإيه اللى يرميه على المر أصلًا.
يقول محمد تبارك فى كتابه عن الرجل «عندما منح الملك فاروق المطربة أم كلثوم وسام الكمال.. فكر عبدالوهاب فى تقديم عمل فنى لنفسه حتى ينال هو الآخر وسامًا من الملك.. وطلب من صديقه صالح جودت كتابة نشيد تضمن كلماته اسم الملك فاروق.. وكتب صالح النشيد وتم اختيار سفح الهرم الأكبر لتقديمه فى حفل يشرفه الملك.. ونقلت الإذاعة الحفل على الهواء وانتهى وغادر الملك دون أن ينعم عبدالوهاب بشىء.. وكشف عبدالوهاب بعدها فى حديث له بجامعة القاهرة أنه لم يكن يكره الملك.. لكنه- الملك يعنى- لم يكن يحبه.. وأضاف: «ربما كان ما بينى وبينه نوع من الغيرة»!!
هل يمكن تلخيص علاقة عبدالوهاب بملك مصر فى هذه الجملة التى أرادها هو.. الغيرة؟.. بالقطع لا.
لقد سمعها عبدالوهاب من أستاذه شوقى «لا سياسة.. هناك سياسة وهناك فن» ويعلق محمود عوض:
«إن شوقى يجامل مرة.. ويتملق.. وينافق أحيانًا.. يرثى مصطفى كامل ومحمد فريد من الحزب الوطنى.. يمجد سعد زغلول من حزب الوفد.. يمدح عدلى يكن ومحمد محمود وعبدالخالق ثروت من الأحرار الدستوريين.. لكنه فى النهاية ليس تابعًا لواحد من هذه الأحزاب «هل اتضحت الصورة الآن؟ الأمر يحتاج لتفصيل بعض الشىء».
على ظهر عوامة منيرة المهدية.. كانت هناك حفلة تحضرها الملكة نازلى.. عبدالوهاب يتذكر: «وبينما كنت أستعد للغناء جاءنى من يقول لى إن جلالة الملكة تريد أن تسمع دور «الله يصون دولة حسنك».. وهو أحد الأدوار المشهورة لعبدالحى حلمى.. وحاولت أن أعتذر بأننى لا أحفظ الدور.. ولكن المرسال نظر لى نظرة ذات مغزى، وقال لى وهو يبتسم.. دى رغبة جلالة الملكة.. ومهمتنا من إشارته الخفية أنها ليست مجرد رغبة.. وإنما هى أمر ملكى، وإن أشياء كثيرة يمكن أن تتوقف على عدم تنفيذ هذا الأمر بلا نقض ولا إبرام.. ووقعت فى حيص بيص.. وأنا لم أكن فعلًا قد حفظت الدور أو رددته من قبل.. ثم جاء الفرج فى شخص عازف الرق سيد كامل الذى قال لى إنه يحفظ الدور.. حينئذ قلت: عال.. أنت تجلس خلفى وتغنى الدور.. وأنا أفتح فمى وأغلقه متظاهرًا بالغناء.. وربنا يستر بقى».
نفذ عبدالوهاب أمر الملكة.. وأوامر كل الملوك من بعدها.. فغنى عام ١٩٣٦ نشيد المعاهدة عقب إبرام المعاهدة المعروفة بذلك الاسم بمشاركة زكريا أحمد وعبدالغنى السيد وفتحية أحمد ومحمود أبوالوفا.
وفى العام نفسه ومن كلمات بشارة الخورى لحن وغنى «أنزلت آية الهدى» التى تقول:
«أنزلت آية الهدى فى جبينك فإذا الشرق كله طور سينك
فتن الشمس مفرق زين التاج فودت لو أنها بعض عينك
ما رأت مصر قبل يومك فيها مثل دنياك فى الملوك ودينك»
ولم ينل شوقى شيئًا من الملك.. لكنه غنى بعدها بعامين فى عيد جلوسه «يا بهى الملك».. وفى مناسبة زفافه غنى «يا طير باللحن الجميل».. وبعدها بعام وفى عيد ميلاد الأميرة فريال غنى من كلمات محمود حسن إسماعيل: «يا أغانى السماء هاتى واطربى».. فهل رضى الملك؟.. لا طبعًا.. بل وصل الأمر إلى التهديد بقتل عبدالوهاب الذى فر إلى الصعيد خوفًا من «يد الملك وسيفه».


فى عام ١٩٤٥ غنى عبدالوهاب أربع أغنيات للملك فاروق، أولاها فى عيد جلوس الملك واسمها «الشباب» من كلمات صالح جودت.. ولنفس المؤلف غنى «هلّ السلام فى مواعيدك» بمناسبة ما سموه «نهاية الحرب العالمية الثانية».. و«فى ظل فاروق رفعنا العلم».. وأخيرًا «أنشودة الفن».. وهذه الأنشودة ظل المصريون بعد قيام ثورة يوليو يسمعونها لسنوات باعتبارها أغنية عن الليل والنوم ودنيا الفن.. وأنه لا علاقة لها بالسياسة لا من قريب أو بعيد.. لكن حقيقة الأمر أنها كانت تضم مقطعا يقول:
«الفن مين يعرفه إلا اللى عاش فى حماه
والفن مين يوصفه إلا اللى هام فى سماه
والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه
والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه
انت اللى أكرمت الفنان ورعيت فنه
رديت له عزه بعد ما كان محروم منه
ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه
ياللى بدعتوا الفنون وفى ايدكوا أسرارها
دنيا الفنون دى خميلة وانتوا أزهارها
والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها
والفن دنيا جميلة وانتوا أنوارها
الفن جنة بتسحرنا بألوانها
نعيش على بدرها ونغنى ألحانها
احنا تاج البلاد الجنة سكانها
وانت راعيها وحارسها ورضوانها
الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها» إلخ.






المهم أن ليلى مراد كانت صديقة للملك فاروق.. وتكاد تراه يوميًا.. وفى إحدى سهراتها معه فى استراحة مصر الجديدة غنت له هذا اللحن فأعجب به.. ثم سألها: هل تحبين عبدالوهاب؟ فقالت: نعم.. فأضاف: «عشان كده هخلصلك عليه».. وأبلغت ليلى عبدالوهاب الذى شعر بأنه انتهى.. فجرى إلى منزل صديقه الوزير الوفدى عبدالحميد عبدالحق.. وحسب كلام عبدالوهاب كان يعتبر نفسه بالنسبة له «مش مجرد صديق.. ولكن واحد من الأسرة».
وعبدالحميد هذا هو شقيق وزير العدل أيضًا وقتها عبدالمجيد عبدالحق.. وشقيق الملحن الرائع والممثل عبدالعظيم عبدالحق الذى لحن «تحت الشجرة يا وهيبة».
المهم أن الوزير قرر على الفور أن يركب عبدالوهاب القطار إلى أبوقرقاص، حيث تعيش عائلة الوزير الوفدى.. ليختفى عن أنظار الملك حتى ينسى.. وفى القطار ظل عبدالوهاب يردد لنفسه «يا نهار أسود.. يخلص عليا مرة واحدة».. وبمجرد وصوله إلى «حدائق الأسرة الصعيدية.. هدأ روع الموسيقار.. الذى اختفى لأيام.. حتى هدأ الملك وعادت المياه إلى مجاريها».
ورد عبدالوهاب الجميل للوزير الوفدى الذى ترشح فى الانتخابات عام ١٩٥٠ عن دائرة السيدة زينب بأن غنى له فى حملته الانتخابية.. وتكاد هذه الأغنية تكون من أوليات مشاركات الفنانين فى «الترويج للمرشحين بالغناء» ويمكن أن نطلق على تلك الأغنية بسهولة أغنية الزيت والسكر.. فقد حاول حسين السيد مؤلفها أن يستميل ناخبى الدائرة بأن شرح لهم أفضال وزير التموين فى توفير الزيت والسكر وغنى عبدالوهاب:
«يا أهل الدايرة.. يا مجاورين السيدة نظرة
حلفتكم بالست الطاهرة.. لتجاوبوا وتقولوا الحق
تنتخبوا مين؟!.. عبدالحق..
فاكرين لما خد التموين.. والسكر كان ماسكه مين
كان ف السوق السودا تعابين.. لما شافوه قام دخلوا الشق
تنتخبوا مين؟!.. عبدالحق... والعيش كان مخلوط فى تراب
وعجينته مدهونة هباب.. واللقمة على رطل كباب
ماكنتش تنزل للحلق.. تنتخبوا مين؟! عبدالحق».



أفلت عبدالوهاب من سيف الملك.. ولكن بسبب الملك نفسه أصبح متهمًا.. ومواليًا وصوتًا دنسًا يطالب رجل الإخوان سيد قطب بإبعاده.. ومحاكمته.. فعندما قامت ثورة يوليو.. كتب سيد قطب فى عدد مجلة الرسالة الصادر بتاريخ ٢٢ سبتمبر ١٩٥٢.. مطالبًا وزير الدولة فتحى رضوان بمنع الإذاعة من إذاعة أغانى عبدالوهاب وآخرين.. متهمًا الإذاعة بأنها لم تشعر بأن هناك ثورة فى البلد.. وهاجم عبدالوهاب الذى وصفه بأنه صوت دنس «ينفث فى روعه أن الدنيا سيجارة وكاس».. مختتمًا بأن هذه الأصوات «جريمة وطنية».. هذه الجريمة كان يجب أن يحاكم أصحابها، ووصل الأمر إلى أن مجلس الثورة قرر فعلًا تحديد إقامة عبدالوهاب ومصادرة أملاكه.
ووصل الخبر إليه وإلى أم كلثوم فاستنجدا بالسفارة السعودية.
وتكشف وثائق خرجت مؤخرًا وأشار إليها د. سمير غريب فى مقال له بجريدة الحياة اللندنية عام ٢٠٠٨ وبالتحديد فى العدد الصادر بتاريخ ٢٣ يوليو.
هذه الوثائق هى عبارة عن رسائل من مسئول بالسفارة وكان اسمها «الوكالة السعودية» اسمه محمد الطبيشى إلى محمد نجيب- أول رئيس لمصر- وهى بتاريخ ٤ يونيو عام ١٩٥٣.. يطلب من نجيب فى رسالته التدخل بناء على طلب الملك عبدالعزيز للنظر فى أمر قررته الثورة بخصوص عبدالوهاب وأم كلثوم، وتكشف الرسالة أنهما ذهبا للسفارة وأبديا رغبتيهما فى التنازل عن هدايا العهد البائد لهما من ذهب وخلافه.
وأنهما على استعداد للتعاون مع الثورة «إننا الآن قلبًا وقالبًا مع الثورة المباركة.. ونحن على استعداد للتنازل عن جميع الهدايا الذهبية والمجوهرات التى أخذناها فى ذلك العهد عن طيب خاطر».
«على استعداد للتبرع ليس بأعمال ولكن بالدم فى سماء الوطن.. ونجاح الثورة».
ونجا عبدالوهاب مجددًا، لكنه هل انحاز فعًلا لثورة يوليو.. وهل رضى عنه الضباط الأحرار؟!
الإجابة أن كليهما.. الثورة وعبدالوهاب.. لم يقبل الآخر بسهولة.. وظهر ذلك بوضوح فى منع أغنيات لعبدالوهاب ظن أنه يقدمها للثورة، وظن رجالها أنه يندد بهم فيها ومنها أغنية اسمها «انده على الأحرار» كتبها عبدالمنعم السباعى:
«لو فات عليك الأسى.. والظلم فيك احتار
بين الصباح والمسا.. انده على الأحرار
بيبيعوا أرواحهم.. فى عز أفراحهم
لعزة الأبطال.. مهما يزيد الشجن
ولا يطول الأنين.. اضحك وقول للزمن
الدنيا دامت لمين؟».


ودامت الدنيا لعبدالوهاب.. ما يقرب من مائة عام.. اقترب فيها من الملوك.. ومن الثوار.. ومن السادات.. ومبارك.. وهذه قصة طويلة تحتاج إلى أن تُروى.