رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ


القرآن الكريم تتجدد معانيه، وتنطبق على أحوال الناس جميعًا حتى يوم القيامة. ولكن القراءات تختلف حسب المفهوم والقدرة على الاستنباط.. الذى يرى الواقع العربى على حقيقته يحزن كثيرًا لما ‏يراه، كما جاء ذكر ذلك فى القمة الأخيرة بالسعودية على لسان بعضهم من الرؤساء والحكام والمسئولين.‏

تعلمنا فى الصغر أن النجاح له سبعة آباء، أما الفشل فإنه لقيط لا أب له، لن يتبناه أحد حتى الذين أحدثوه. الأحداث دامية، وزاد فى صعوبتها أن يقف بعضهم وراء الضربة العدوانية التى وجهتها ‏أمريكا ومعها بريطانيا وفرنسا إلى سوريا قبل القمة بيوم واحد، وكأنها إنذار أو تنبيه من ترامب للقمة.‏
ولذلك كثرت الإشارة إلى تلك الأحداث فى القمة بصيغة المبنى للمجهول حتى لا يغضب أحد ولا تضيع المصالح. أما الشعوب فلا وزن ولا قيمة ولا رأى. وجاءت الكلمات والبيانات صماء جوفاء ‏ليست لها آليات للتنفيذ ولا المتابعة ولا المحاسبة. لا فرق فى القمة بين من حضر ومن لم يحضر.. الإنسان غريب، ولذلك جاء هذا النص القرآنى العظيم «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا ‏إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ». هناك فساد لا ينكره أحد، وهناك إرهاب لا ينكره أحد، وهناك تخلف لا ينكره أحد، ولكن كيف يمكن تحديد المسئول أو الإشارة إليه. «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا ‏كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ».‏

ماذا نقول أكثر من هذا. المشاكل هى المشاكل، والتحديات تزداد يومًا بعد يوم، هل نتوقع من الذين أحدثوا تلك التحديات والفساد أن يعالجوه؟!. النص القرآنى يوضح لنا هذا الوضع. يقول الله تعالى ‏‏«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ».. انظر واقرأ وتدبر أيها القارئ الكريم تفسير هذه الآية الكريمة. ‏
ففى تفسير ابن كثير، قال السّدى عن ابن مسعود: هم المنافقون، والفساد فى الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية، وقال أبوالعالية: «لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ» يعنى لا تعصوا فى الأرض، وكان ‏فسادهم ذلك معصية اللّه، لأنه من عصى اللّه فى الأرض، أو أمر بمعصيته فقد أفسد فى الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، وقال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون فى الأرض ‏بمعصيتهم ربهم، وركوبهم ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم فى دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب باللّه وكتبه ‏ورسله على أولياء اللّه إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فذلك إفساد المنافقين فى الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، وغرَّهم ‏بقوله الذى لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولهذا قال تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»، أى نريد أن ‏ندارى الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، قال ابن عباس «إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»، أى إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.‏
أما فى تفسير الجلالين، فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ» أى لهؤلاء «لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ» بالكفر والتعويق عن الإيمان، «قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ» وليس ما نحن فيه بفساد. قال ‏تعالى ردًا عليهم.. وكذلك فى تفسير خواطر الشيخ محمد متولى الشعراوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»: الفساد فى الأرض هو أن تعمد ‏إلى الصالح فتفسده، وأقل ما يُطلب منك فى الدنيا، أن تدع الصالح لصلاحه، ولا تتدخل فيه لتفسده، فإن شئت أن ترتقى إيمانيًا، تأتى للصالح، وتزد من صلاحه، فإن جئت للصالح وأفسدته فقد أفسدت ‏فسادين، لأن الله سبحانه وتعالى، أصلح لك مقومات حياتك فى الكون، فلم تتركها على الصلاح الذى خلقت به، وكان تركها فى حد ذاته بعدًا عن الفساد، بل جئت إليها، وهى صالحة بخلق الله لها ‏فأفسدتها، فأنت لم تستقبل النعمة الممنوحة لك من الله، بأن تتركها تؤدى مهمتها فى الحياة، ولم تزد فى مهمتها صلاحًا، ولكنك جئت إلى هذه المهمة فأفسدتها.. فلو أن هناك بئرًا يشرب منها الناس، ‏فهذه نعمة لضرورة حياتهم، تستطيع أنت بأسباب الله فى كون الله أن تأتى وتصلحها، بأن تبطن جدرانها بالحجارة، حتى تمنع انهيار الرمال داخلها، أو أن تأتى بحبل وإناء حتى تعين الناس على ‏الوصول إلى مياهها، ولكنك إذا جئت وردمتها تكون قد أفسدت الصالح فى الحياة.‏
وهكذا المنافقون، أنزل الله تعالى منهجًا للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما فى جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنهم مؤمنون به ليطعنوا الإسلام ‏فى داخله.. ولقد تنبه أعداء الإسلام إلى أن هذا الدين القوى الحق، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر، بل يواجهها ويتغلب عليها. فما قامت معركة بين حق وباطل إلا وانتصر الحق، ولقد حاول أعداء ‏الإسلام أن يواجهوه سنوات طويلة، ولكنهم عجزوا، ثم تنبهوا إلى أن هذا الدين لا يمكن أن يُهزم إلا من داخله، وأن استخدام المنافقين فى الإفساد، هو الطريقة الحقيقية لتفريق المسلمين، فانطلقوا إلى ‏المسلمين اسمًا ليتخذوا منهم الحربة التى يوجهونها ضد الإسلام، وظهرت مذاهب واختلافات، وما سموه العلمانية واليسارية وغير ذلك، كل هذا قام به المنافقون فى الإسلام وغلفوه بغلاف إسلامى، ‏ليفسدوا فى الأرض ويحاربوا منهج الله.‏
وإذا لفت المؤمنون نظرهم إلى أنهم يفسدون فى الأرض، وطلبوا منهم أن يمتنعوا عن الإفساد، ادعوا أنهم لا يفسدون ولكنهم يصلحون، وأى صلاح فى عدم اتباع منهج الله والخروج عليه بأى حجة ‏من الحجج؟.. أقول: التفاسير القديمة تميل إلى أن الفساد فى الأرض من الكفار والمنافقين، لأن المسلم فى صدر الإسلام جاء ليصلح وكان المسلمون يفهمون ذلك. اليوم ليس بالضرورة أن يكون ‏الفساد من الكفار ولا المنافقين ولكن من الجاهلين. ولذلك فإن تفسير الشيخ الشعراوى أقرب إلى روح العصر. ‏
أما المعيار المزدوج من الغرب المتقدم فواضح لكل ذى عينين، ولكن منا من كان سببًا فى التخلف والفساد والإرهاب وهم مسلمون، يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويشهدون أن لا إله إلا الله ‏ولكنهم لا يعملون عملًا صالحًا. ‏
وبالله التوفيق.‏