رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جنينة فى جُحر الديب!


ولأن جحور «الديب» كلها سراديب، فإن الثعابين والعقارب قد تسكن سردابًا منها. الأمر الذي قد تتحول معه نكتة الموسم إلى نكبة، لغز أو طلسم. والنكتة هي انضمام الأستاذ فريد الديب المحامي، إلى هيئة الدفاع عن الأستاذ المستشار هشام جنينة، الذي تنظر المحكمة العسكرية، الأربعاء، ثاني جلسات محاكمته.

لغير المتابعين أو لمن لا يشاهدون الفيلم من أوله، نوضح أن المدعو «هشام جنينة» كان ضابط شرطة، ثم قاضيًا، وأنهى حياته العملية مُقالًا (أي معزولًا) من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات. وحين قرر رئيس أركان القوات المسلحة السابق «الفريق مستدعى» سامي عنان الترشح لرئاسة الجمهورية، اختاره نائبًا له. وبإلقاء القبض على عنان لـ«ارتكابه مخالفات وجرائم بإعلان عزمه الترشح في انتخابات الرئاسة المصرية دون استئذان القوات المسلحة»، زعم الأستاذ المستشار في حوار نشرته النسخة الإخوانية من موقع «هافينجتون بوست»، في ١١ فبراير الماضي، صوتًا وصورة، أن الأستاذ الفريق يحتفظ بوثائق سرية، خارج مصر، تدين أجهزة الدولة ومؤسساتها وقياداتها، خلال فترة إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد، بعد ٢٥ يناير، وهدد بنشرها لو تعرض «عنان» لأي مكروه!.

ردًا على تلك «الهلاوس»، أصدر المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة، بيانًا، أعلن فيه أن ما صرح به المدعو هشام جنينة، بجانب ما يشكله من جرائم، فإنه «يستهدف إثارة الشكوك حول الدولة ومؤسساتها، في الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الوطن في سيناء لاجتثاث جذور الإرهاب». وأن القوات المسلحة «ستستخدم كل الحقوق التي كفلها لها الدستور والقانون في حماية الأمن القومي، والمحافظة على شرفها وعزتها، وأنها ستحيل الأمر إلى جهات التحقيق المختصة لاتخاذ الإجراءات القانونية». وبإحالة «جنينة» إلى النيابة العسكرية، قررت في ١٣ فبراير الماضي حبسه على ذمة التحقيقات.

 

الإثنين الماضي، بدأت أولى جلسات محاكمة المذكور، وقبل ساعات من الجلسة الثانية، تم الإعلان عن استعانته بالأستاذ فريد الديب، الذي يظلمه من يصفونه بأنه «محامي مبارك»، إذ إنه قبل توليه الدفاع عن الرئيس الأسبق ووزير داخليته، حبيب العادلي، وعدد من أبرز رجال نظامه، تولى عددًا كبيرًا من القضايا المهمة التي شغلت الرأي العام المحلي والدولي، بينها الدفاع عن رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، في قضية مقتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم، ودافع عن أيمن نور، سنة ٢٠٠٥ في قضية اتهامه بتزوير توكيلات حزب الغد. كما وكّلته أسرة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، لإقامة دعوى ضد جريدة «العربي» لسان حال الحزب الناصري، التي اتهمت الرئيس الراحل بـ«الخيانة». وكانت أبرز وأشهر القضايا التي تولاها الأستاذ الديب هي دفاعه عن الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام سنة ١٩٩٧. ودعك أي «سيبك» من أنه خسر القضايا السابقة كلها، فقديمًا قالوا إن الصيت أهم من الغنى!.

أحد أعضاء فريق الدفاع قال إن «ما يشغلهم ويهمهم تحقيق مصلحة المستشار جنينة في النهاية». وقبل أن تعتقد إن للمصلحة المتبادلة دورًا في المحبة التي جاءت بعد العداوة، ادّعى محامٍ آخر في مداخلة مع برنامج على قناة عزمي بشارة، قناة «العربي»، أن الأستاذ الديب كان صديقًا لوالد الأستاذ جنينة. بما قد يعني أن المحبة لها جذور تاريخية، وأن تلك الجذور احتاجت وقتًا حتى تنبت لتصبح أشجارًا تغرد عليها البلابل. والبلابل جمع بلبل الذي يخلط سيئو النية أحيانًا بينه وبين «الحمامة» بما لها من دلالات أو إيحاءات ليس مسئولًا عنها صديقنا الكبير الراحل محمد مستجاب، إذ إن الثابت هو أن تلك الإيحاءات ارتبطت بالحمامة قبل سنوات طويلة من كتابته عمود «رقبة لا مؤاخذة الحمامة»، وستدرك ذلك لو رجعت لكتاب «الحيوان» للجاحظ، وبعده اختار ابن حزم الأندلسي «طوق الحمامة» عنوانًا لكتابه الشهير!.

 

دع الحمامة وشأنها، فموضوعنا هو البلابل التي ستكون مخطئًا لو اعتقدت أنها غردت على أشجار أنبتتها جذور العلاقة بين الأستاذ الديب والأستاذ جنينة. لوجود أسباب كثيرة تمنعها من التغريد، بينها تصريحات عديدة، وجّه فيها الأستاذ الديب اتهامات (وإدانات) للأستاذ المستشار تكفي، حال ثبوتها، لسجنه خمسين سنة على الأقل. الأمر الذي يجعلك تعيد النظر في تبريرات لم يدرك أصحابها أن التـ...برير، أو التعريـ....ف، بجوانب قد تكون غائبة، يحتاج أيضًا قدرًا من الجهد، حتى لو كان من يقوم بالتـ...برير أو التعريـ....ف، له خبرات الأستاذ محمد نور فرحات التي أهلته لتولي العديد من المناصب المهمة، أبرزها نائب رئيس «المجلس القومي للمرأة».

الأستاذ فرحات، الذي يصفونه بأنه فقيه قانوني أو دستوري، أدلى في الموضوع بعدة دِلاء (جمع دلو) أو جرادل (جمع جردل)، تكفي وزيادة لري «جنينة» الفسطاط، وتحصينها بـ«السماد العضوي». وبين ما نزل من تلك الدلاء أو الجرادل أن «فريد الديب محامٍ محترف، وليس رئيسًا لحزب سياسي، ومن أول مبادئ المحاماة أن تنصر من يستنجد بك حتى ولو خالف قناعاتك وانحيازاتك». و«أن نطلب من المحامي الدفاع عن فصيل دون فصيل، مثله كمثل أن نطلب من الطبيب علاج مريض دون مريض». و«المحاماة ليست مهنة رأي بل مهنة غوث». وأن عددًا من المحامين ذوي التوجهات السياسية التقدمية تحفظوا في الدفاع عن جنينة لأسباب تفهمها المستشار، واختتم النائب السابق لرئيس المجلس القومي للمرأة تدوينته بالقول: «لو سمحتم لا داعي لبخس الناس أقدارهم خصوصًا من دفعوا أثمانًا باهظة لمواقفهم».

بين ما فات الأستاذ فرحات وأمثاله المـ....بررين، المعر...فين، أن الأستاذ الديب قال في مداخلات تليفزيونية، يوم الثلاثاء ١٨ فبراير ٢٠١٤ إن حديث الأستاذ المستشار في هذا التوقيت وهجومه على القضاء والشرطة يدل على أنه موال لجماعة الإخوان ويريد تجميل صورتهم على حساب الشرفاء. مضيفًا أن «كلام جنينة اليوم في حق القضاة نوع من «الهجايص» لاستعداء الرأي العام ضد القضاء لتصفية حسابات أخرى». و«استمرار للهجمة الشرسة التي بدأت أثناء حكم مرسي ضد مؤسسات القضاء المصري العريق». وأكد الأستاذ الديب أن الأستاذ المستشار جنينة يريد تصفية حساباته بمحاولة تلويث القضاء والقضاة بعد إحالته للمحاكمة في أكثر من تهمة»، ووصف كلامه بأنه متناقض وشاذ وغريب. وطالبه بألا يكون «ضلاليًا» ووصفه بأنه «دائم الاعتياد على عدم قول الحق».

 

طبعًا.. طبعًا كلنا يعلم أن الأستاذ الديب يعرف قدر الكلمة، ولا ينطق إلا بما يعي وبيده ميزان لعباراته، ونظره معلق بحب البلد الذي نشأ ويعيش فيه. لكن ربما يقول فريق الدفاع عن الأستاذ جنينة إن الأستاذ الديب كان يعاني، هو أيضًا، من صدمة نفسية نالت من توازنه العصبي، وأنه لم يكن يعبر على إرادته الواعية، حين أدلى بتلك التصريحات، سواء في مداخلات تليفزيونية، وقد نقبل ذلك ونلوم صديقنا الدكتور إبراهيم مجدي، استشاري الطب النفسي لأنه لم يتطوع لعلاج الأستاذ الديب، الذي لا نبالغ حين نصفه بأنه ثروة قومية.

لهيئة الدفاع عن الأستاذ جنينة، سابقة في ذلك، ولا أعتقد أنك نسيت أنها دفعت بإصابة موكلها بمرض اضطراب ما بعد الصدمة. كما لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحاول فيها الأستاذ جنينة، التنصل من تصريحات أدلى بها، إذ سبق أن فعل الشيء نفسه، حين ادّعى أن «تكلفة الفساد في مصر ٦٠٠ مليار جنيه خلال عام ٢٠١٥»، ثم قال أمام المستشار خالد ضياء، المحامي العام لنيابة أمن الدولة العليا: «محصلش الكلام ده»، وأكد أن «ما نشرته الجريدة غير صحيح». ولم يكتفِ بذلك، بل أقام دعوى قضائية ضد الصحفية (رانيا سيد محمد عامر) ورئيس تحرير جريدتها، «اليوم السابع»، اتهمهما فيها بنشر أخبار كاذبة من شأنها الإساءة إلى الجهاز المركزي للمحاسبات ورئيسه. غير أن محكمة جنايات الجيزة قضت، في ٨ مارس ٢٠١٧، ببراءة الزميلة ورئيس تحريرها، وكان المعنى المباشر لهذا الحكم، مع حكم آخر، هو أن الأستاذ المستشار كذب مرتين: كذب حين قال، وكذب حين ادعى أنه لم يقل. والحكم الآخر، هو ذلك الذي أدانته فيه محكمة جنح مستأنف القاهرة الجديدة، وقضت بحبسه سنة مع إيقاف التنفيذ، وبغرامة قدرها ٢٠ ألف جنيه.

ما علينا، فما يعنينا الآن هو أن اضطراب ما بعد الصدمة، أي صدمة، قد يفسر اتهامات الأستاذ الديب للأستاذ جنينة في مداخلات تليفزيونية، لم نتوقف إلا عند واحدة منها، ويمكنك أن تجد عشرات غيرها على يوتيوب لو أردت أن تتلقى دروسًا في «فن الردح»، وقد يقودك حظك إلى مداخلة من تلك الرد رد فيها الأستاذ المستشار على التحية بأحسن منها. منها مثلًا «تحية» الأستاذ الديب، في ١٢ أغسطس ٢٠١٥ بأنَّ وجود جنينة في منصبه يشكِّل خطرًا على المصلحة الوطنية والمصلحة العليا للبلاد، والتي رد عليها الأستاذ المستشار، مساء اليوم نفسه، في برنامج «العاشرة مساء»، بقوله: «أصلًا وجودي خطر على فريد الديب واللي زيه».. «أنا خطر على كل فاسد أو من يتحالف ويُدافع عن الفساد».. «وجودي يمثل خطرًا على كل من يدافع عن الفساد وعلى كل من يريد إغلاق ملفات الفساد».. «أنا مدرك تمامًا أنَّ حنفية الفساد يريدها فريد الديب وغيره مفتوحة».

 

الكلام الشفهي، كما أشرنا، يمكن التشكيك فيه، حتى لو كان بالصوت والصورة، والأساتذة الأفاضل جربوها، وينتظرون (ونحن معهم) النتيجة. ونشير هنا إلى أن أطباء نفسيين، بينهم صديقي إبراهيم مجدي، أوضحوا أنه في حالة التأكد من مرض الأستاذ المستشار، فإن المحكمة قد تقوم بإعفائه، وربما يتم إلحاقه بمستشفى الأمراض النفسية أو العقلية، ليستكمل العلاج هناك. ولو حدث ذلك، يكون الأستاذ الديب قد اختار الرفيق قبل الطريق، ويكون الدعاء لكليهما بالشفاء واجبًا. لكن المعضلة ستكون في الكلام التحريري، خاصة لو كان مودعًا لدى جهات رسمية، ومنه اتهام الأستاذ الديب للأستاذ المستشار جنينة، في يوليو ٢٠١٥، بأنه إحدى الركائز الإخوانية التي زرعها محمد مرسي العياط في أجهزة الدولة، في مذكرة قانونية، قيل إنها مدعمة بالوثائق والمستندات، تقدم بها إلى محكمة جنح مستأنف مدينة نصر، لتبرئة موكله الأستاذ أحمد موسى من تهمة سب وقذف الأستاذ «جنينة».

بين ما تضمنته تلك المذكرة أن مخطط جماعة الإخوان لأخونة الدولة والسيطرة على مفاصلها بدأ بمجرد إجلاس مرسي على مقعد الرئاسة، والذي أصدر في ٦ من سبتمبر ٢٠١٢ القرار الجمهوري رقم ١٧٢ لسنة ٢٠١٢، بتعيين المستشار هشام جنينة، رئيسًا للجهاز المركزي للمحاسبات. وأكدت المذكرة أن جنينة انبرى عقب تعيينه للهجوم على الشرطة وعلى القضاء، ضمن مخطط النيل منهم لحساب جماعة الإخوان، وتصدى له المستشار أحمد الزند حين كان رئيسًا لنادي القضاة، وكشف عن سوء نيته وأماط اللثام عن حقيقة هويته، من حيث انتمائه إلى جماعة منحرفة أنشأها الإخوان داخل القضاء وأطلقت على نفسها «قضاة من أجل مصر»، كان الغرض من إنشائها هو أن يقوم أعضاؤها بهدم القضاء من داخله.

 

أرأيت أو «شفت بقى» كيف أن ضَم مثل تلك المذكرة، إلى ملف القضية المنظورة الآن، قد يُزيد الطين بللًا، ويُحيل أي «جنينة» إلى معجنة؟! حتى لو تم التنصل منها، هي الأخرى أو تبريرها، فلا تثريب عليك لو غنيت وردّد معك شيطانك: «ناح النواح والنواحة.. على بقرة حاحا النطاحة.. والبقرة حلوب، تحلب قنطار.. لكن مسلوب، من أهل الدار.. والدار بصحاب و١١ باب، غير السراديب.. وجحور الديب».