رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثروت الخرباوى يكتب: نعم.. الرسول رأى الله يا يوسف

جريدة الدستور

مرت بنا منذ أيام ذكرى ليلة الإسراء والمعراج، وكان يوسف زيدان قد شط به الاجتهاد فزعم أن الإسراء كان لمسجدٍ فى الطائف اسمه الأقصى! وأن قصة المعراج مختلقة ومن الإسرائيليات، والفارسيات، روج لها الحكاءون، وتشبث بها المسلمون، ورغم أن هذه الترهات «الفكرية» تحتاج إلى رد تفصيلى، إلا أننا الآن فى رحلة روحية، وفى الرحلات الروحية يجب أن يغيب الخلاف والاختلاف، ولنترك من كتب فيما كتبه، هو وشأنه، ولنبدأ فى رحلتنا الروحية لعلنا نصل من خلال الأرواح ووثباتها إلى حقيقة المعراج، وسنرى كيف رأى الرسولُ، صلى الله عليه وسلم، اللهَ سبحانه وتعالى يوم أن عُرِج به.

الله هيأ محمد لـ«الإسراء والمعراج» بـ«فراق الأحبة».. والنبى اخترق سنن المكان والزمان ليصل إلى «الحضرة الإلهية»

رحلتى معكم يا سادتى روحية، تذهب إليها أرواحُنا دون أن نبرح أماكننا، فهل تريدون أن تكونوا معى فى رحلتى؟.. إذا كان كذلك فاستكملوا قراءة المقال حيث أصحبكم إلى معية الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى الإسراء والمعراج، وقد يبدو الأمر غريبًا على البعض أن تكون بداية الرحلة منطلقة من مشاعر الحزن الشفيفة، فمن منا لم يخالط قلبه الحزن ويضمخ فؤاده الألم؟ كلنا نحزن ولكننا حين نحزن نجهل أننا عندما نحزن نرتقى من حيث نظن أننا ننتهى، وأعلى الحزن منزلة ـ وللحزن منازل ـ هو حزن فراق الأحباب، وما يدريك ما فراق الأحباب؟ ذاك الفراق الذى لا يعرفه إلا من كابده، وحين عرف قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ألم الفراق لمَّا ماتت زوجته وحبيبته أمنا «خديجة» رضى الله عنها، وعمه حبيبه وناصره «أبوطالب» اغترف قلبه من الحزن، وكان حزنه نورا فى قلبه وتصفية لنفسه وارتفاعا بمقامه، كان هذا الحزن تهيئة له حيث تنتظره رحلة نورانية فريدة لا مثيل لها فى السابق، ولن يكون لها مثيل فى اللاحق، رحلة سيخترق فيها بإذن ربه سننا كونية نعم، هى رحلة الإسراء والمعراج بلا شك، ولعلى قرأت من البعض أن رحلة الإسراء والمعراج كانت مكافأة للرسول تبهج قلبه عوضا عن فراق أحبابه، وأظن الأمر كان على غير ذلك، فهى لم تكن مكافأة، ولكن الحزن كان هو «التهيئة» الربانية حتى تخلو نفس الرسول إلا من الله وحده، فالله وحده الذى إن فارقنا أحبابنا كان هو الحبيب الذى لا يفارقنا، فسبحانه لا يقطعنا، ويده لا تُرفع عنا.

كانت تهيئة نفس الرسول إذن لاختراق بعض سنن الكون، وكل نبى من الأنبياء اخترق سننا كونية بإذن الله ومشيئته وعلمه الذى بث قدرا منه فيهم، إبراهيم عليه السلام اخترق خاصية النار المُحرقة فكانت بردا وسلاما عليه، وعيسى اخترق خاصية الموت والحياة فأحيا الله به الموتى، وأجرى الله على يديه الشفاء للمرضى، ثم رفعه الله إليه ليبقى متخطيا زمنا لا نعرفه فى مكان نجهله، وانظر للسنن الكونية التى اخترقها موسى عليه السلام، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فحادث الإسراء والمعراج شاهد على اختراقه حجب الزمان والمكان، وهو لم يخترق سنن المكان والزمان ليُعجز قومه، فلم تكن تلك الرحلة من باب التحدى لقومه، ولكنها كانت ارتقاءً بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى مدارج نورانية علوية لم يصل إليها أحدٌ من خلق الله من قبل، ولو كانوا من الملائكة المقربين، ولتتأكد من ذلك يجب أن تنتبه إلى أن الإسراء كان ليلا «سبحان الذى أسرى بعبده ليلا»، أى أن الإسراء كان بعيدا عن عيون الناس.
لذلك فإن الله سبحانه قد هيأ الرسول صلى الله عليه وسلم لرحلة الإسراء والمعراج تهيئة خاصة، فالجسد بطبيعته العادية لا يمكن أن يخترق حجب الزمن فيُسرى به ثم يُعرج به ثم يعود إلى مكانه ولم تمر عليه إلا دقيقة! ولكن إذا هَيَّأ الخالق تهيَّأ المخلوق، وكان من ناتج هذه التهيئة أن أصبحت طبيعة الرسول فى البداية نورانية ملكية وبهذه النورانية انتقل إلى عالم الملائكية وخضع لقوانينهم، وقبل أن يدخل إلى سدرة المنتهى هيئه الله لطبيعة تتخطى النورانية الملكية، فهو سيدخل إلى حيث «لا مكان ولا زمان» وهنا يُهيأ بنورانية «الحضرة الإلهية» وحيث اللامكان واللازمان تتعطل الحواس البشرية كلها، فلا مجال لها عندما تتسيد الروح، ومن أجل هذا فإننا لا نستطيع وقتئذ أن نتحدث عن قوانين البشر فى الرؤية والنظر والبصر والسمع والشم واللمس، ولكن من سيكون فى سدرة المنتهى سيخضع لقوانينها فى الاستقبال والإدراك لا قوانين الحياة الدنيا.

قصة المعراج ليست من حكاوى القاصين أو تخرصات الإسرائيليات أو الخرافات الفارسية مثلما تحدث زيدان مؤخرًا

قد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم كل مشاهد الإسراء والمعراج، واستغرق زمنا لا نعلم مقداره، وعاد إلى بيته قبل أن يبرد فراشه، وكانت الليلة شاتية باردة، فأنكرت قريش وقالت وفقا لعلمها: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّدٌ إليها فى ليلة! فماذا لو علموا أنه عاد بمقدار أن يتجرع أحدهم شربة ماء! كانت سُنة الزمن الذى دلف إليه غير سُنة زمننا، وقانون المكان غير قانون مكاننا، لذلك ذهب وعُرج به ونزل وعاد دون أن يمر عليه الزمن الخاص بنا، ولكن مر به الزمن الخاص بالطبق الذى دخل إليه «لتركبن طبقا عن طبق» فالله خلق السماوات والأرض طباقا وليس طبقات أو متطابقات، ألم يقل سبحانه (الذى خلق سبع سماوات طباقا) أى متداخلات بشكل كامل بحيث يستحيل أن تلحظ فارقا بين طبق وطبق مصداقا لقوله (ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور).

ولكن هل رأى الرسولُ صلى الله عليه وسلم اللهَ سبحانه وتعالى؟.. عندما ظن البعض أن قوانين الجسد البشرى الطينى هى التى كانت تصاحب الرسول فى المعراج لذلك فهم «الرؤية» الواردة فى سورة النجم على أنها كانت لجبريل عليه السلام، ولكن كيف تكون لجبريل وهناك من يُمارى فيها مصداقا لقوله تعالى «أفتمارونه على ما يرى» وكيف يكون لم ير إلا جبريل وتكون آية كبرى! وجبريل كان يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل حين! وكيف يكون قد رأى جبريل بالفؤاد فقط وهو الذى يراه فى الحياة الدنيا بالبصر! ثم إن الله قال «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» وهناك قراءة تقول «لقد رأى من آيات ربه * الكبرى» أى أنه رأى الآية الكبرى من آيات ربه، وهى آية رؤية الله.

نحن هنا بين رأيين، فهناك من نفى رؤية الرسول بالكلية لله، وهناك من أكد أنه رآه بالبصر، ولكن الأمر عندى غير ذلك، إذ إن من يستقبل فعل الرؤية على أنه إدراك بالبصر فإنه يكون قد غفل عن «لسان القرآن» وفى القرآن «الرؤية» غير «النظر والبصر والمشاهدة»، وقد وردت الرؤية فى كثير من الآيات على نحوٍ يدل على الإدراك بحاسة غير حاسة البصر، وتدل على الإدراك بالفؤاد والعقل والقلب، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى فى سورة النحل «وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم» والمراد برؤية العذاب إشرافه عليهم، والكثير من آيات «ألم تر» معناها ألم تعلم، فالرؤية هنا هى العلم، مثل قوله تعالى «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» و«ألم تر كيف فعل ربك بعاد» أى ألم تعلم، أما الكلمة فى اللغة التى تعنى إدراك الأشياء بالعين فهى «البصر» كقوله سبحانه وتعالى فى سورة البقرة «وتركهم فى ظلمات لا يبصرون» ولم يقل «لا يرون» وفى سورة الأعراف «ولهم أعين لا يبصرون بها» وليست «لا يرون بها»، أما كلمة النظر فتستخدم لغة أيضا للدلالة على اتجاه الإنسان بعينيه إلى الأشياء، ففى سورة البقرة «وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون»، وفى سورة البقرة «فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه» ومع ذلك قد يستدير وجهك ويتجه نظرك إلى شىء ولا تبصره، فالله يقول فى سورة الأعراف «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون»، ومن هذا كله نعلم أن الله فى المعراج قد هيأ سيدنا محمد ليراه بطريقة أخرى، ففى سدرة المنتهى تعطلت الحواس وانطلقت الروح فكانت رؤية الفؤاد التى هى أكثر إدراكا من رؤية البصر «ما كذب الفؤاد ما رأى» من أجل تلك الكلمات الأخيرة طلبت منكم أن تفهموا الأمر كله بأرواحكم، فالأرواح هى التى تدرك ما لا يدركه العقل والنظر والبصر، ولقد كانت كلمة القرآن الفيصلية هنا هى «الفؤاد» ولم يقل الله سبحانه: ما كذب الفؤاد ما أبصر، أو ما نظر، ولكنه قال «ما رأى» والرؤية تكون بالفؤاد لا بالحواس، من أجل هذا لا يجوز أبدا أن نقول إن المعراج لم يحدث وعندنا سورة «النجم» التى قصت علينا قصة المعراج، وليست حكاوى القاصين، أو تخرصات الإسرائيليات، أو الخرافات الفارسية، كما قال يوسف زيدان.