رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ديمقراطية كتالونيا!


 

بإرادته الحرة المستقلة، وفي استفتاء نزيه، أعلن الشعب الكتالوني، قيام «جمهورية كتالونيا المستقلة». ومع أن الديمقراطية هي أن يختار الشعب، إلا أن الحكومة الإسبانية رأت غير ذلك، وتعاملت مع اختيار الشعب بشكل لا يليق بدولة طالما تغنَّى العالم بنضج تجربتها الانتقالية من الحكم الديكتاتوري المديد، إلى نظام ديمقراطي قيل إنه عصري وراسخ وعتيد!.

رئيس الحكومة الإسبانية وصف الاستفتاء بأنه «استهزاء بالجوهر الأساسي للديمقراطية»، وأثنى على تدخلات الشرطة واشتباكاتها مع من شاركوا فيه، التي كانت تدخلات واشتباكات عنيفة، أصيب على إثرها ٨٥٠ شخصًا. وهو ما يعني أن الذي اتهم خصومه بالاستهزاء بالديمقراطية، لم يجد ما يدافع به عنها، أي عن الديمقراطية غير «العصا الغليطة»، فقد استخدمت الشرطة الهراوات والرصاص المطاطي وقامت باحتلال مراكز الاقتراع.

إقليم كتالونيا، Catalunya، هو أحد الأقاليم الإسبانية المتمتعة بالحُكم الذاتي، تبلغ مساحته ٣٢ ألف كيلومتر مربع (٦٪ من مساحة إسبانيا) ويبلغ عدد سكانه ٧.٥ مليون نسمة. ومنذ ما يزيد على خمسة قرون، يراود سكانه حلم الاستقلال (أو الانفصال) ويرون أنهم محتلون من إسبانيا، ولم يتراجعوا عن هذا الحلم بعد حصولهم على قدر من الاستقلالية أو «الحكم الذاتي»، ولم يكتفوا بما تمتعت به المؤسسات المحلية للإقليم من صلاحيات إدارية وسياسية واسعة.

بعد سقوط النظام الملكي في إسبانيا وإعلان الجمهورية سنة ١٩٣٢، أعلن الكتالونيون قيام جمهوريتهم بعد فوز الأحزاب اليسارية الكتالونية في الانتخابات، لكن بعد التفاوض مع «مدريد»، اكتفوا بالحصول على حكم ذاتي بصلاحيات واسعة للحكومة المحلية، أو مجلس القيادة الذي ما زال يوصف إلى اليوم بـ«الجنراليتات». غير أن الجنرال فرانشيسكو فرانكو المنتصر في الحرب الأهلية الإسبانية، ألغى سنة ١٩٣٩ مؤسسات الحكم الذاتي الكتالوني، وحظر على الكتالونيين استخدام العَلم المحلي، وسماع الأناشيد الوطنية. كما شمل الحظر أيضًا التحدث باللغة الكتالونية. ووقتها، فرّ رئيس «الجنراليتات»، مجلس القيادة الكتالوني، إلى فرنسا، فقامت بإلقاء القبض عليه سنة ١٩٤٠ وسلّمته إلى نظام «فرانكو»، وبعد محاكمة صورية تم إعدامه.

فترة حكم «فرانكو» شهدت فيها إسبانيا أيامًا سوداء، كانت أكثر سوادًا على كل الحركات المنادية بالانفصال في كتالونيا وغيرها. وبموت «فرانكو» سنة ١٩٧٥ دخلت إسبانيا مرحلة التحول الديمقراطي وشهدت برشلونة سنة ١٩٧٧ مظاهرة ضخمة شارك فيها مليون شخص، كانت أبرز مطالبهم العفو عن المعارضين السياسيين ومنح الحكم الذاتي للإقليم. وبالفعل منح الدستور الإسباني الجديد، سنة ١٩٧٨ الحكم الذاتي لـ١٧ إقليمًا بينها كتالونيا، ومع ذلك لم تتوقف أحزابه وحركاته السياسية عن المطالبة بمزيد من «الحكم الذاتي» أو الاستقلال. وبفوز القوى المؤيدة للانفصال بالأغلبية في البرلمان المحلي سنة ٢٠١٥، بدأ التحرك نحو تحقيق الحلم، وتمت الدعوة إلى إجراء استفتاء في أكتوبر الماضي، كانت نتيجته تأييد أكثر من ٩٠٪ (بالضبط ٩٠.١٨٪) للانفصال وإعلان جمهورية كتالونيا.

غير استخدام مدريد «العصا الغليظة»، الهراوات والرصاص المطاطي، للدفاع عن الديمقراطية، من وجهة نظرها، في مواجهة من ارتكبوا جريمة الاستهزاء «بالجوهر الأساسي» لها، وغير محاولتها منع إجراء الاستفتاء، كان ردّها على اختيار الشعب (نتيجة الاستفتاء)، هو تعليق العمل بنظام «الحكم الذاتي» في كتالونيا، وأقالت حكومتها وحلّت برلمانها، وبالتالي تم وضع المؤسسات المحلية في الإقليم تحت الإشراف المباشر للسلطات الفيدرالية المركزية. كما قامت بإلقاء القبض على قادة «مغامرة» الانفصال (الاستقلال) الذين لم يتمكنوا من الهرب، كما فعل كارليس بوتشيمون، الرئيس الكتالوني السابق، الذي لجأ إلى بلجيكا، والذي ألقت السلطات الألمانية القبض عليه، في ٢٥ مارس الماضي، لدى دخوله البلاد قادمًا من الدنمارك، في طريق عودته إلى العاصمة البلجيكية، بروكسيل.

لماذا أوجع دماغك بتلك «الحواديت» الآن؟!

السبب ببساطة هو أن مساء الخميس، قضت محكمة ألمانية بالإفراج عن الرئيس الكتالوني السابق مع إبقائه تحت الرقابة. ومع أن المحكمة قالت إن القانون الألماني لا يأخذ في الاعتبار تهمة «العصيان» الموجهة إليه من القضاء الإسباني، إلا أنها استدركت بأن اتهامه باختلاس الأموال العامة قد يجيز تسليمه. والإشارة هنا مهمة إلى أن المخابرات الإسبانية كانت تتعقّب بوتشيمون منذ فراره إلى بلجيكا، وأنها هي التي أبلغت السلطات الألمانية عن مكان وجوده. وطبيعي ألا يتم إلقاء القبض عليه بدون موافقة السلطات السياسية في برلين، التي ستقوم، على الأرجح، بتسليمه إلى إسبانيا.

أكثر من سبب يجعل تسليم «بوتشيمون» مُرجحًا، قد يكون بينها الحرص على العلاقات بين البلدين، أما السبب الأقوى، فهو الخوف من أن المشكلة الكتالونية، حال عدم السيطرة عليها، ستفتح الباب أمام القوميات الكثيرة النائمة في البيت الأوروبي، التي تتعالى الأصوات بضرورة التصدّي لها واحتوائها (أو السيطرة عليها) قبل فوات الأوان. خاصة، بعد صعود الأحزاب والحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة، بصورة جعلتها تشكّل خطرًا كبيرًا (بل الخطر الأكبر) على المشروع الأوروبي الذي تحاول برلين وباريس انتشاله من أزماته وكبواته، والخروج به من النفق المظلم الذي يسير فيه.

بهذا الشكل، قد تقوم السلطات الألمانية بتسليم «بوتشيمون»، لاتهامه باختلاس أموال عامة، وهناك (في إسبانيا) تنتظره عقوبة بالسجن لسنوات طويلة بتهمة التمرّد والعصيان وغيرها. ولولا إلغاء إسبانيا عقوبة الإعدام سنة ١٩٩٥، لواجه مصير سلفه الذي قامت فرنسا، بتسليمه إلى نظام «فرانكو». بما يعني أن ألمانيا ٢٠١٨ لا تختلف عن فرنسا ١٩٤٠ وبما يعني أيضًا سقوط أسطورة التجربة الانتقالية الإسبانية، ونظامها الديمقراطي العصري، الراسخ والعتيد التي تغنّى بها العالم!.