رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الشعر والشعراء «3»


ذكرنا فى مقال سابق أن الإمام الشافعى، رحمه الله تعالى، قال مفتخرًا:
ولولا الشعر بالعلماء يزرى *** لكنت اليوم أشعر من لبيد
وهنا يتضح للقراء الكرام سبب من أسباب تركيز الشافعى على العلم، ورغم هذا فقد كان له باع طويل فى شعر القيم والمبادئ السامية العظيمة. ذكرنا منها بعض النماذج فى مقال سابق. ولكن السؤال هنا: لماذا اختار الشافعى الشاعر العربى لبيد، ليقر بأنه أشعر العرب، وما القيم التى دعا إليها لبيد فى شعره الذى سارت به الركبان، كما يقول العرب؟.
كتب العرب وسيكتبون عن لبيد وغيره من الشعراء، خصوصًا شعراء ما يعرف بالمعلقات. والمعلقات سبع أو عشر حسب الشهرة والانتشار واعتبار الأدباء والنقاد وتعلقها بالنفوس وبالعقل والموقف والموضع أو أنها كانت تعلق على أستار الكعبة.. ولعل هذه المقالات تصل إلى المثقف والقارئ العادى ولا تقتصر على الدارسين فى الكليات والمعاهد وأقسام الدراسات المتخصصة فقط.
الشاعر لبيد الذى يشير إليه الشافعى هنا- كما تقول المصادر العديدة- هو: أبوعقيل لبيد بن ربيعة بن مالك العامِرى من عامر بن صعصعة من قبيلة هوازن. (توفى ٤١ هـ ٦٦١م) عن عمر يناهر المائة وأربعين عامًا أو أكثر قليلًا، صحابى وأحد الشعراء الفرسان الأشراف فى الجاهلية، وأبوه ربيعة بن مالك والمكنى بـ«ربيعة المقترين» لكرمه. من أهل عالية نجد. مدح بعض ملوك الغساسنة مثل: عمرو بن جبلة، وجبلة بن الحارث. أدرك الإسلام، ووفد على النبى مسلمًا، ولذا يعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم. وترك الشعر فلم يقل فى الإسلام إلا بيتًا واحدًا. سكن الكوفة وعاش عمرًا طويلًا. وهو أحد أصحاب المعلقات المشهورين، بل من أشهرهم.
وأصحاب المعلقات السبع هم: امرؤ القيس، طرفة بن العبد، زهير بن أبى سلمى، لبيد بن ربيعة، عمرو بن كلثوم، عنترة بن شداد العبسى، الحارث بن حلزة اليشكرى، ثم أضاف بعضهم ثلاث معلقات أخرى فصارت عشر معلقات وأصحاب الثلاث هم: النابغة الذبيانى، والأعشى، وعبيد بن الأبرص.. أما مطلع معلقة «امرؤ القيس» فهو:
قِـفَـا نَـبْـكِ مِـنْ ذِكْـرَى حَـبِـيبٍ ومَنْزِلِ *** بِسِـقْطِ اللِّـوَى بَيــْنَ الدَّخُـول فَحَـوْمَلِ
وتبدأ معلقة طرفة بن العبد بـ:
لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد *** تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليد
أما زهير بن أبى سلمى فقد بدأ معلقته قائلًا:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ *** بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
وهذا لبيد بن ربيعة- أشعر العرب- يقول فى مطلع معلقته:
عـفـتِ الـديـارُ مـحـلُّـهـا فـمُـقـامُـهَــا *** بـمـنًـى تـأبَّـدَ غَـوْلُــهـا فَـرِجَــامُـهَــا
وأما عمرو بن كلثوم فقد كان مطلع معلقته:
ألاَ هُبِّى بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا *** وَلاَ تُبْقِى خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا
وأما سادس شعراء المعلقات عنترة بن شداد العبسى فيقول:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ *** أم هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ تَوَهُّـمِ؟
وآخر السبعة الكبار الحارث بن حلزة اليشكرى، فيقول فى مطلع معلقته:
آذَنَتنَـا بِبَينهـا أَسـمَــاءُ *** رُبَّ ثَـاوٍ يَمَـلُّ مِنهُ الثَّـواءُ
ومطلع المعلقات الثلاث الأخرى فكان كما نقرأ:
يــا دارَ مَــيّــةَ بــالــعَــلــيْــاءِ فــالــسَّــنَــد *** أقْــوَتْ وطَـــالَ عــلــيــهــا ســالــفُ الأَبَدِ
هذا كما قال النابغة الذبيانى، أما الأعشى فقد قال فى معلقته:
ودّعْ هريرة إنْ الركبَ مرتحلُ *** وهلْ تطيقُ وداعًا أيها الرّجلُ؟
وقال عبيد بن الأبرص:
أَقفَرَ مِن أَهلِهِ مَلحوبُ *** فَالقُطَبِيّاتُ فَالذُّنوبُ
هكذا قال لبيد معلقته الشهيرة، للشاعر النابغة الذبيانى، عندما رأى النابغة عليه علامات الشاعرية فقال له: «يا غلام إن عينيك لعينا شاعر. أنشدنى» فأنشده اثنتين فقال له: زدنى فأنشده المعلقة، فقال له النابغة: اذهب فأنت أشعر العرب، وفى رواية أشعر هوازن. ولم يقل فى الإسلام إلا بيتًا واحدًا، وهو:
الحمد لله الذى لم يأتنى أجلى *** حتى لبست من الإسلام سربالا
طبعًا كان الشعراء يفتخرون بقبائلهم وأنسابهم، خاصة إذا كانوا من قبائل كبيرة مثل هوازن. وقد جاء الإسلام ليعلمهم القرآن أن التعارف هو الطريق، فجاء فى سورة الحجرات «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» جاء القرآن ليؤكد أهمية التعارف ويحدد معيار وميزان الإكرام عند الله تعالى فى التقوى.
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاصطفاء، يوضح أهمية ذلك حيث يقول «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ». وفى الحديث «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْأَلُكُمْ عَنْ أَحْسَابِكُمْ وَلا أَنْسَابِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».
وبهذا ندرك لماذا توقف بعض الشعراء عن قرض الشعر كاملًا أو جزءًا بعد أن دخلوا فى الإسلام. لقد تغيرت المعايير وحتى مصادر الفخر.