رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حق الانتخاب بين القوات المسلحة وأفرادها!


هنا فرق بين ممارسة السياسة وممارسة الحزبية، فالحقيقة أن العمل العسكرى هو سياسى بطبيعته، ويدرس العسكريون السياسة باعتبار أن الاستراتيجية العسكرية تتبع السياسة.

أثار رأى المحكمة الدستورية العليا فى مسودة قانون الانتخابات وقانون ممارسة الحقوق السياسية عاصفة من الأسئلة، خاصة حول حق أفراد القوات المسلحة والشرطة فى الانتخاب، بل وأصبح موضوعا رئيسيا فى الصحافة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمرئية، وربما الموضوع الرئيسى لفترة ما، وكنت قد سبق أن أوضحت رأيى فى هذا الموضوع أثناء مناقشة مشروع الدستور وقبل الاستفتاء عليه، كما سبق أن أثرت هذه القضية أثناء خدمتى فى القوات المسلحة بعد أن ألغى الرئيس الأسبق أنور السادات حق أفراد القوات المسلحة فى الانتخاب والإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات والاستفتاءات تحت تسمية «إعفاء» أفراد القوات المسلحة والشرطة من أداء «الواجب» الانتخابى، التى انقلبت حقيقة إلى «حرمان» هؤلاء الأفراد من «حق» الانتخاب.

لقد أثارت ملاحظات المحكمة الدستورية العليا السالف ذكرها عدة أسئلة وتعليقات من المهم التصدى لها، وربما كان أهمها ما إذا كان ذلك تسييسا للمؤسسات سابقة الذكر، أى أنه دعوة لها للاشتغال بالسياسة أو التدخل فيها، وهى ملاحظة غريبة، فالحديث هنا عن حق أفراد، وليس حق مؤسسة، وحق أى أفراد لا يعنى حق المؤسسة التى ينتمون إليها، فالعاملون فى وزارة ما أو شركة ما حينما يمارسون حقهم الانتخابى لا يمارسونه باعتبار أنهم يعبرون عن رأى المؤسسة التى ينتمون إليها، وإنما يعبر كل فرد منهم عن رأيه منفصلا عن رأى باقى زملائه، وعن رأى رؤساء المؤسسة حكومية كانت أو خاصة. هكذا فإن ممارسة أفراد القوات المسلحة لحق الانتخاب لا يعنى حق «القوات المسلحة» فى الانتخاب، وغالبا لا تؤدى إلى تصويت متماثل لأفراد القوات المسلحة.

تساءل البعض عن أسباب اعتراض المحكمة الدستورية العليا وإقرارها حق أفراد القوات المسلحة والشرطة فى المشاركة فى الانتخابات الآن وعدم اعتراضها فى السابق؟ والسؤال يعنى أن السائل لم يدرك التغيير الذى أدخله الدستور القائم والذى جرى الاستفتاء عليه مؤخرا، والذى أوجب عرض القوانين على المحكمة الدستورية العليا لإبداء الرأى فيها قبل إصدارها، وهو شرط لم يكن موجودا قبل ذلك، وكان دور المحكمة المذكورة قبل ذلك يقتصر على المراجعة بعد الإصدار وبناء على دعوى أو دعاوى يقيمها أفراد، وهكذا فإن قانون الانتخاب السابق لم يطعن أحد فى دستورية المواد التى تحرم هؤلاء الأفراد من حق الانتخاب، أى أن الدستور الجديد هو السبب فى هذا الاعتراض، وأن السحر قد انقلب على الساحر وأصبح النص الخاص بدور المحكمة فى إصدار القوانين قيدا على إصدار القوانين، وهنا فإن المحكمة أعادت الحق إلى أصحابه ولم تتدخل فيما لم تتدخل فيه سابقا، ولكنها مارست أداء واجبها وفقا للدستور والقانون الجديدين.

يقول البعض إن إقرار حق أفراد القوات المسلحة فى التصويت فى الانتخابات والاستفتاءات يعنى تدخلهم فى السياسة، ومما لا شك فيه أن هذا الوضع يعطى هؤلاء الأفراد حقا بأن يشاركوا بإبداء الرأى فى سياسة بلدهم، وفى رأيى أن هذا منطقى تماما، فليس من المعقول أن يكون الفرد مستعدا للتضحية بحياته من أجل قضية لم يؤخذ رأيه فيها، وهنا فإنى أفرق بين أن يؤخذ رأيه، وأن يؤخذ برأيه، فأخذ الرأى يعنى أن يحسب رأيه ضمن آراء المؤيدين أو المعارضين، أما أن يؤخذ برأيه فيعنى الالتزام برأيه مهما كان، وهو أمر غير مقبول من أى فرد، وقد كان من غير المنطقى أن يحرم أفراد القوات المسلحة بمن فيهم كبار القادة مثل رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقادة الجيوش والأفرع الرئيسية ورؤساء الهيئات ومديرو الأسلحة وقادة الفرق واللواءات وغيرهم من حق الانتخاب، بينما يمارس هذا الحق العاطلون والأميون الذين يتساءلون فى اللجنة عمن ينتخبونه، وربما يطلبون من رؤساء اللجان مساعدتهم فى اختيار المرشحين.

هل يمكن أن يؤثر القادة فى تصويت مرءوسيهم؟ إذا كان التصويت سريا فإن أحدا لا يستطيع أن يؤثر فى رأى الناخب، والتجارب السابقة تشير إلى أن أفراد القوات المسلحة قد مارسوا حقهم الانتخابى دون تدخل وعارض بعضهم أحيانا انتخاب رئيس الجمهورية، والمهم أن تكون هناك ضمانات لحرية الانتخاب على نحو ما يجرى فى كل المؤسسات.

هل ممارسة أفراد القوات المسلحة لحق الانتخاب يعنى تدخلهم فى السياسة والانتماء إلى الأحزاب؟ قطعا لا. فليس بالضرورة كل من يمارس حق الانتخاب ينتمى إلى حزب، اللهم إلا ما يسمى بـ «حزب الكنبة»، وهنا فإنه يحرم على أفراد القوات المسلحة النشاط الحزبى، وذلك لسبب هو أن الممارسة الحزبية تعنى ما يسمى بالالتزام الحزبى، أى أن يلتزم عضو الحزب برأى الحزب حتى لو تعارض مع رأيه الشخصى، وهو أمر غير مقبول من أفراد القوات المسلحة والشرطة، وهو أمر يقتصر على فترة بقائه فى القوات المسلحة، فقد يكون الفرد قد انتمى إلى حزب ما قبل التحاقه بها، فيوقف نشاطه الحزبى بمجرد التحاقه، ثم يعود إليه بعد أن يترك الخدمة فى القوات المسلحة والشرطة، ولدينا أمثلة كثيرة عندنا وفى البلاد الأخرى عندما التحق بعض كبار الضباط بالأحزاب بعد إحالتهم إلى التقاعد، وليس منطقيا أن نقول إنهم لم يكونوا يحملون تعاطفا مع هذا الحزب أثناء وجودهم فى القوات المسلحة، وأنهم اكتشفوا الحزب بعد التقاعد. هنا فرق بين ممارسة السياسة وممارسة الحزبية، فالحقيقة أن العمل العسكرى هو سياسى بطبيعته، ويدرس العسكريون السياسة باعتبار أن الاستراتيجية العسكرية تتبع السياسة، ولكى تستعد القوات المسلحة والشرطة لأداء واجباتهما عليهم أن يدرسوا السياسة جيدا وأن يستنتجوا المهام المتوقعة التى سيطالبون بتنفيذها، ولا أظن أن هناك تخصصات لصيقة العمل بالسياسة مثل هاتين الجهتين.

طبعا هناك تساؤلات حول تنفيذ وممارسة حق الانتخاب فى القوات المسلحة والشرطة، عن كيفية وما إذا كان سيسمح بالدعاية الانتخابية داخل القوات المسلحة، وهنا فإنه لابد من أن يكون واضحا أن الدعاية الانتخابية داخل القوات المسلحة والشرطة غير واردة، وإذا كان من المناسب أن نقارن بين هؤلاء الأفراد وآخرين فيمكن مقارنتهم بالمصريين المقيمين بالخارج وكيف تنظم الدولة ممارستهم لحق الانتخاب، وطبعا ليست هناك دعاية انتخابية هناك خارج السفارة، كما يمارس الأفراد حقهم الانتخابى داخل لجان خاصة فى السفارات والقنصليات، ولا ينتقص ذلك من مشروعية وصحة انتخابهم.

من المهم أن تنظم عملية الاقتراع السرى وضمان نزاهتها، وهو أمر مطلوب فى القوات المسلحة وغيرها، وأتصور أن يشارك أفراد القوات المسلحة فى الاقتراع فى اللجان العامة، وليس فى لجان داخل القوات المسلحة وعلى عدة أيام لتأكيد الحياد، وأن يكون على نفس النحو الذى تجرى به ممارسة المصريين المقيمين فى الخارج لحقهم الانتخابى، وفى جميع الأحوال يجب ضمان حيدة وحرية الانتخاب.

■ خبير سياسى واستراتيجى