رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا سيوة.. «الدستور» تتجول فى بحر الرمال الأعظم

جريدة الدستور

لا يوجد أفضل من «بحر الرمال الأعظم» لتقول بشجاعة عند زيارته: أنا الآن فى الصحراء، فهو المكان الساحر، الذى تنبثق منه عيون الماء، ويزينه النخيل، وتحيطه الجبال العالية من كل مكان، فى صورة تكللها أشعة الشمس الساخنة فى فصل الشتاء.

هذه المرة، فى محطتنا الثانية بواحة سيوة، سنستمتع بالغوص فى بحر الرمال الأعظم، ومنه سنتوجه إلى المكان الأشهر فى سيوة، وهو «شالى»، المدينة الأثيرة عند أهالى الواحة ولدى المؤرخين والكتاب وصناع السينما والدراما.

«السفارى» بتصريح أمنى.. ثعالب أليفة فى الطريق.. والأدلَّة يتغزلون فى الأمواج الصفراء
سيارة دفع رباعى تتسع لـ٧ أشخاص، تتنقل بك بين منازل الواحة، تحمل فى صندوقها الخلفى بعضا من مستلزمات الرحلة: ألواح التزلج، وبعض المسليات مثل «السودانى»، إضافة لمفرش سيوى، وأدوات الشاى، تبدأ بها يومك الثانى فى «واحة الغروب».

خيارات عدة، لبدء خطة اليوم الثانى، فقد تخرج لرؤية شروق الشمس من أعلى نقطة فى «جبل الموتى»، إذا كنت نزيلا بالفندق المجاور له، وهو الفندق الأول الذى أسسه أحد أبناء الواحة، وقد ترغب فى زيارة مصنع الملح، لمعرفة كيف يجرى تحويله إلى أشكال فنية بين «أباجورات»، و«بيوت للشمع»، وغيرها من الهدايا التذكارية الصغيرة التى قد تحتاجها وقت العودة.

هذا كل ما تستطيع القيام به فى الساعات الأولى من الصباح، لأنك فى الثانية ظهرًا سيكون عليك التأهب للانطلاق فى رحلة إلى «بحر الرمال الأعظم»، تمر فيها أولا على مكتب أمنى للحصول على تصريح الانطلاق، وهو ما يجعل رحلتك آمنة، ثم تبدأ الرحلة هادئة، وكلما تعمقت فى الصحراء زادت المتعة.
المغامرة هى أساس تعامل سائق عربات «السفارى» مع ضيوفه، فكل ما عليك هو المشاهدة والاستمتاع، وكلما زادت الصرخات الممتزجة بالضحك رغب فى إسعادك، التشكيلات الرملية داخل الصحراء تساعده فى الصعود والهبوط بسهولة ويسر، وتكتمل الصورة مع نغمات واحدة من الأغانى الليبية، وهى الأقرب لبيئة الواحة.

أولى رحلاتنا فى السفارى كانت مع «عم يوسف».. كنا نتعجب من حفظه خط السير حتى بعد أن أسدل الليل خيوطه، فضلا عن معلوماته التى يلقيها عليك دون طلب منك، ولا ينسى أن يريك الثعالب الصغيرة التى تظهر بين الحين والآخر، مدللا على عدم إيذائها لرفقاء الصحراء.

ثانية الرحلات كانت مع «عبدالله»، موظف فى شركة الصرف الصحى بالواحة، رجل سفارى يحب واحته ويرفض الخروج منها، ويرى فيها من التنوع ما يغنيه عن غيرها.

أما ثالثة الرحلات، فكانت مع «عم فؤاد»، الذى قرر إيصال المغامرة لمرحلة قد لا تتوقعها، فعلى قمة جبل رملى أوقف سيارته وطلب منا النزول لالتقاط صور تذكارية مع الصحراء.

كل من الثلاثة له طريقته، إلا أن الجميع اتفق على التغزل فى «بحر الرمال الأعظم»، ومساعدتك على رؤية صورة لم تكن تستطيع رؤيتها بمفردك.

نعود إلى مسار الرحلة، والتى تنقسم إلى شقين، أولهما مغامرة تتضمن الصعود والهبوط من أعلى قمم الجبال الرملية بشكل مفاجئ، فتتمايل السيارة يمينا ويسارا، بينما تظهر أمامك سيارات لرحلات أخرى وكأنها سراب، يختفى بين التشكيلات الرملية، ثم تظهر غيرها على شكل سرب طيور يمشى بانتظام ليشكل خطا طوليا يتمايل مع أمواج الرمال. بعد حوالى ساعة تصل إلى «بئر واحد»، أول مزار داخل الصحراء، التى تقع على بعد من ٢٠ إلى ٣٠ كيلو داخل الصحراء، وهى بئر صغيرة دائرية الشكل محاطة بسور صخرى، مليئة بالمياه الكبريتية تنبع من «أنبوب»، وتصل حرارتها إلى ٤٥ درجة مئوية.

فى البداية، كانت البئر مقصد السياح، عرفوا قيمة مياهها الكبريتية، من مصاحبيهم من أهالى سيوة، ثم عرف طريقها السائح المصرى، فحاول الاستفادة منها، خاصة - حسب ما يقول «جمال يوسف» أحد أهالى سيوة- أنها تساعد على «فك العضلات، وعلاج آلام العظام، والاسترخاء.

على بعد ٥ دقائق تقع العين الباردة، التى تصل مساحتها لأضعاف «بئر واحد»، فضلا عن اختلاف درجة حرارة المياه بها، ووجود الأسماك فيها، وما عليك إلا إلقاء بعض قطع الخبز حتى تخرج هذه الأسماك عند قدميك، فى تجمعات كبيرة تحاول الفوز بما تقدمه إليها.

العودة للعربات والانطلاق لاستكمال الرحلة هو ما يتم بعد انتهاء وقت البحيرة الباردة، والمخصص لها ما يقرب من ٣٠ دقيقة، فتقضى مثلها مستسلما لأمواج الرمال، ترفعك لأعلى نقطة وتهبط بك مرة أخرى، حتى تستقر مع عدد من سيارات السفارى فى نقطة عالية لانتظار مشهد الغروب.

لا يقتصر وقت انتظار الغروب على احتساء الشاى فقط، فإذا كنت محتفظا بجزء من طاقتك أمامك مهمة أخرى، فعليك الهبوط من أعلى نقطة إلى أسفلها على أن تستبدل السيارة بـ«ألواح التزلج» أو «السكيت بورد»، وهو ما يستوجب التركيز ومحاولة الاحتفاظ بتوازنك.

نهاية اليوم تكون مع العشاء، وإذا ذُكرت السفارى، ذُكر «الكامب»، فتستمتع للمرة الثانية بالعشاء وسط أجواء ساحرة على أن تختار بين وجبات «أبومردم»، أو «الشاورما»، وغيرها من الأطعمة المطبوخة دون إضافة زيوت أو أى مواد دهنية، وبعدها تقضى ساعات فى سهرة بين النجوم، وعلى أنغام الدف، فيردد الجالسون الأغانى السيوية والمقتبسة من التراث الليبى.

روبى صورت «يا الرموش» أعلى «قلعة شالى».. ويوسف الشريف زار الواحة فى «القيصر» و«كفر دلهاب».

رحل اليوم الثانى، لكن لم يزل هناك الكثير من الأسرار التى لم تبح بها الواحة بعد، ففى جولة داخلها، وتحديدا بالقرب من السوق الموجودة فى وسط سيوة، تكتشف أن السبب فى اختيار هذا المكان ليكون سوقا تجارية ومركزا لها، هو وجود «قلعة شالى»، أو كما يُطلق عليها «شالى غادى»، أى «البلدة» أو «المدينة» أو «الوطن»، وهى المكان الذى شهد الحياة الأولى لأهالى سيوة.

«سوق عكاظ».. هكذا أطلق محمد جيرى، أحد أبناء الواحة - الذى اعتاد مرافقة الرحلات- على «خص نضرة» وهو المكان الموجود فى مدخل «قلعة شالى»، وكان يشهد تبادل التجارة بين الناس، موضحا أن هذا المكان شهد مرور القوافل التجارية القادمة من المغرب العربى، مرورا بسيوة إلى المشرق العربى وطريق الواحات وصولا إلى صعيد مصر، وهو أشهر الأماكن الموجودة فى المجتمع السيوى.

إذا أردت الوصول إلى «شالى» ومشاهدة الغروب من أعلى نقطة، كل ما عليك هو الوقوف فى مركز السوق، حيث يكون على يسارك الشارع المخصص لمحال التمور والمطعم الأشهر هناك، وتستكمل الطريق حتى تصل إلى محال الإكسسوارات والحقائب المصنوعة يدويا.

وفى نهاية الممر يظهر درج حجرى كبير، ما إن تلمسه قدماك حتى تشعر وكأنك داخل أحد المسلسلات التاريخية، وبعد عدة درجات ينقسم إلى مدخلين، لن تفهم فى البداية الفرق بينهما، لكن ما إن يخرج الرجل الكبير من غرفة على يسار السلم، مرتديا زيه الأبيض، ومتكئًا على عصاه حتى تفطن أن الدرج الأيمن هو المخصص لباب المسجد العتيق الذى بنى عام ٥٠٠ هجرية، ومازالت تقام فيه الصلاة حتى الآن وتم ترميمه مؤخرا وعاد لوضعه الطبيعى.

تصعد الدرج الأيسر، فينتهى بك إلى قطع صخرية عليك استخدامها لمواصلة السعى والوصول إلى هدفك عند قمة «شالى»، والتى تنتهى بغرفة صغيرة غير مسقوفة، حافتها عريضة تمكنك من الوقوف عليها للاستمتاع بالمشهد، فالواحة بأسرها مكشوفة أمامك فى شكل بانورامى لن يتكرر.

يكون أمامك القمة الثانية من القلعة، وخلفك مساحات شاسعة من النخيل، وهنا تظهر «بحيرة فطناس»، وغيرها من معالم الواحة، وإذا نظرت أسفل قدميك، تشهد تفاصيل القلعة من غرف ومنازل وآبار، كذلك ترى المسجد الجديد الذى بنى من مادة «الكرشيف».

«شالى» قلعة محصنة بُنيت فى القرن الثانى عشر الميلادى، على يد ٤٠ رجلا، و«الفحم» هو وسيلة الإنارة الوحيدة لسكان القلعة، والذى كان يترك عند باب المدينة، لمن يحتاج، وفق «جيرى».

لم تكن الواحة أكثر من مكان منغلق على سكانه يعرفه القليل من السياح، إلى أن أزاح عدد من الأعمال الفنية الستار عن كنوزها، فتنوع العمارة، وثقافة المجتمع، ونقاء البيئة، جعلها محط أنظار الجميع، خاصة فى الأعمال الفنية.

البداية كانت مع يوسف شاهين فى فيلم «إسكندرية كمان وكمان»، عام ١٩٩٠، قبل أن يكتب بهاء طاهر روايته «واحة الغروب» فى ٢٠٠٦، ولمعت سيوة فى عيون النجوم واحدا تلو الآخر.

وفى ٢٠٠٦ ظهر «جبل جعفر» فى مشاهد لكليب «يا الرموش» الذى قدمته روبى، والتقطت مشاهدها من أعلى قلعة شالى، وفى ٢٠٠٧ صور الفنان عمر الشريف مشاهد من مسلسله «حنان وحنين» هنا.

وفى ٢٠١٦، بدأ الفنان يوسف الشريف تصوير بعض مشاهد مسلسله «القيصر» فى القلعة و«إدرار أملال»، المنتجع السياحى الشهير، ثم عاد فى ٢٠١٧ لتصوير مسلسله «كفر دلهاب»، والذى بُنى له موقع مخصوص للتصوير، فجرى تجديد منزل تهدم بعضه ويقع على بحيرة كبيرة فى الطريق المؤدى لبحيرات الملح، إضافة للتصوير فى القلعة و«إدرار أملال».