رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أقباط ومسلمون فى ثورة 1919


ما زلنا فى شهر مارس وذكريات ثورة ١٩، أول ثورة شعبية كبرى فى تاريخ مصر الحديث، ثورة ضد الاستعمار الذى خرج منتصرًا من أكبر حرب دموية شهدها التاريخ، حتى ذلك الوقت. بهرت الثورة العالم كله، مصر تثور على بريطانيا العظمى، الإمبراطورية التى لا تغيب عن أملاكها الشمس.
قدَّم المصريون نموذجًا فريدًا من العصيان المدنى، إذ أعلن الثوار رفضهم قيام أى حكومة مصرية فى ظل الحماية البريطانية، وهددوا أى سياسى مصرى يوافق على رئاسة الوزراء بأنه فى هذه الحالة ستتم إدانته بالخيانة العظمى، ويقوم الثوار باغتياله.
هنا لجأت بريطانيا إلى سياستها التقليدية «فرِّق تَسُد»، هذه السياسة التى طبقتها من قبل فى الهند، وقامت بريطانيا باختيار شخصية قبطية «يوسف وهبة باشا» لرئاسة الوزراء. وأرادت بريطانيا من وراء ذلك تحقيق أكثر من هدف، فمن ناحية تستدر عطف الأقباط، وتُباعد بينهم وبين مواطنيهم المسلمين، ومن ناحيةٍ أخرى تثير غضب المسلمين من وراء اختيار قبطى لرئاسة الوزراء، ومن ناحيةٍ ثالثة تضع الثوار أمام مشكلة، فهم إذا قاموا بتنفيذ تهديدهم واغتالوا يوسف وهبة، يمكن إطلاق الشائعات أن وراء ذلك عملا طائفيا، وربما يؤدى ذلك إلى إحداث فتنة طائفية شبيهة بتلك الأحداث التى وقعت قبيل سنوات من جراء اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالى على يد إبراهيم الوردانى.
هنا تطوَّع أحد الشباب الأقباط، وهو عريان يوسف سعد، الطالب بكلية الطب، بالقيام بتلك المهمة واغتيال يوسف وهبة، حتى لا يُقال إن مسلما يقتل قبطيا، وحتى يحافظ على شعار ثورة ١٩ «عاش الهلال مع الصليب»، وحتى يفوِّت الفرصة على بريطانيا أن تتدخل للمزيد من قمع الثورة، بحجة حماية الأقليات.
ويقوم عريان يوسف سعد بمحاولة اغتيال يوسف وهبة، لكن المحاولة لم تنجح، وتم إلقاء القبض على عريان والحكم عليه بالسجن المشدد. ويبقى عريان فى السجن حتى يتم الإفراج عنه بعد ذلك بسنوات، ولا يستطيع أن يُكمل دراسته فى كلية الطب. وتنجح الثورة فى تدبير وظيفة لهذا البطل الذى استطاع إفساد سياسة بريطانيا «فرِّق تَسُد».
وعلى الجانب الآخر كان هناك القمص سرجيوس والشيخ مصطفى القاياتى اللذان اندمجا فى الثورة، تأكيدًا لشعار المواطنة. ولهذا لم يكن غريبًا أن نجد القمص سرجيوس فى الأزهر خطيبًا للثورة، والشيخ القاياتى فى الكنيسة خطيبًا للثورة. واستشاطت السلطات البريطانية غضبًا من هذا الوضع الذى أفشل سياستها التقليدية «فرِّق تَسُد»، وحرمها من استخدام مبدأ «حماية الأقليات».
وتقوم السلطات البريطانية باعتقال القمص سرجيوس والشيخ القاياتى ونفيهما إلى رفح، وسجنهما فى معسكر للجيش الإنجليزى، فى سابقة اهتزت لها مصر بأكملها. لكن استمرت الثورة، ونجحت، وتم إعلان قيام المملكة المصرية، وصدور دستور ١٩٢٣، ووصل سعد زغلول إلى الحكم، ووصل قبطى إلى منصب رئيس مجلس النواب، وأصبح مكرم عبيد الرجل الثانى فى حزب الوفد بعد مصطفى النحاس.
ثورة ١٩، إنها الثورة التى أرست دعائم القومية المصرية، ورسخت مبدأ المواطنة، وما زالت ذكرياتها سلاحنا فى مواجهة أى أحداث طائفية.