رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس.. جوهرة الكنيسة القبطية


يحتفل المصريون فى ٩ مارس بذكرى مرور ٤٧ عامًا على رحيل «جوهرة الكنيسة القبطية» البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦. وُلد عازر يوسف عطا فى ٢ أغسطس سنة ١٩٠٢. وبعد أن أتم دراسته الثانوية التحق بشركة «كوكس شيبنج للملاحة».

كان الشاب عازر يُعد نفسه للحياة الرهبانية، فكان يقضى وقت فراغه فى الكنيسة مواظبًا على حضور الصلوات بها، ويمضى الليل فى حجرته الخاصة ساهرًا يطالع الكتب المقدسة أو مصليًا، أعد حجرته بطريقة خاصة تشبه قلاية الراهب فى الدير، حيث البساطة فى ترتيب الحجرة وإعدادها لحياة الصلاة الدائمة.
توجه إلى دير البراموس بوادى النطرون فى صباح ٢٧ يوليو سنة ١٩٢٧. بعد أن اطمأن شيوخ الدير على قوة عزيمته فى تحمل مطالب الحياة الرهبانية من صبر وجلد ونسك وصوم وصمت وطاعة وزهد فى المناصب، زكوه جميعًا ليكون راهبًا بينهم، فتمت رهبنته فى يوم ٢٥ فبراير سنة ١٩٢٨ وتمت طقوس رهبنته ودعوا اسمه «مينا البراموسى» إذ إن ذلك اليوم كان يوافق شهادة «مينا الراهب» فى القرن السابع الميلادى. ومنذ ذلك الوقت وضع لنفسه قانونًا التزم به طوال حياته: (أن يحب الكل، وهو بعيد عن الكل). حدثت بعد فترة أن استأذن الراهب مينا المتوحد من البابا يؤانس أن يسمح له بالسكنى فى طاحونة هواء على مرتفع من جبل المقطم يطل على القاهرة. وتمكن من اختيار إحدى طواحين الهواء، كما أن مدير الآثار أعد عقدًا معه لحمايته من أى مضايقات فى المستقبل. وكان الراهب مينا المتوحد قد اختار طاحونة لا سقف لها ولا باب! وبمساعدة بعض القاطنين بالمناطق المحيطة تم بناء سقف للطاحونة وفوقه دور ثان ليكون كنيسة صغيرة، كذلك وضعوا لها الباب والنوافذ اللازمة.

وتمر الأيام ويشاء الله أن يختار الراهب المتوحد مينا البراموسى ليجلس على الكرسى المرقسى فى ١٠ مايو ١٩٥٩ فكان يوما ذا رنين خاص، فقد أُذيعت صلوات السيامة من محطات الإذاعة مباشرة أثناء تأديتها وحين علم الشعب كله بأن البابا الجديد اسمه «كيرلس» كتب عباس محمود العقاد مقالًا فى جريدة الأهرام، قال فيه: (إن اسم كيرلس ذو رنين خاص فى تاريخ الكنيسة القبطية).

بدأ البابا كيرلس السادس عمله البابوى بإعادة إحياء مدينة القديس مينا الأثرية بمريوط والتى يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادى والتى كانت - حتى القرن التاسع الميلادى - محجًا مسيحيًا عالميًا، فكشف بذلك عن صفحة مجيدة فى تاريخ كنيسة الإسكندرية (وليس الإسكندرية والقاهرة!!) تؤيدها الآثار، فبادر بوضع حجر أساس دير مارمينا بمنطقة مريوط فى ٢٧ نوفمبر ١٩٥٩. ثم بدأ بإنشاء كاتدرائية كبرى تتفق ومركز مصر المرموق فى العصر الحديث، كان كل همه هو تحصين شعبه بالصلاة بعيدًا عن الفلسفات الهدامة، وأن يوطد العلاقة بين أبناء الشعب الواحد، فكم كانت هناك علاقات متميزة بينه وبين جميع رجال الدين الإسلامى بدون فلسفات. فكانت المحبة سائدة بين جميع المصريين.

كما كان يتميز بالتواضع الشديد فى مأكله وملبسه وتعاملاته مع أولاده وحبه الشديد للفقراء. كنا نراه بملابس بسيطة جدًا خالية من الزخارف والبهرجة دليل على صدق حياته الرهبانية، كما كان مأكله بسيطًا جدًا. كان دائمًا يردد على مسامعنا عبارته الشيقة «دارى على شمعتك تنور» فكثير من الأعمال العظيمة التى قام بها كانت فى الخفاء. ربطته بالرئيس عبدالناصر علاقة محبة شديدة وحقيقية، كما ربطته برؤساء الطوائف المسيحية الأخرى محبة ومودة. كان أول لقاء له مع الرئيس عبدالناصر -بمنزل الرئيس- فى عام ١٩٥٩. وفى هذا اللقاء قال البابا للرئيس: (إننا لو أقمنا مصنعًا بملايين الجنيهات وألحقنا به الآلاف من العمال الذين لا وعى لهم، ولا وازع دينى عندهم فماذا نجنى؟ إنهم سيدمرون المصنع.
ولكن يا سيادة الرئيس لو أقمنا مصنعًا بمائتى جنيه وألحقنا به عشرة عمال يتمتعون بالضمير الحى الطاهر، مخلصين لله والوطن، فإن إنتاج هذا المصنع سيفوق بكثير إنتاج المصنع الأول الذى تكلف الكثير والكثير. لذلك يا سيادة الرئيس، إنى بعون الله سأعمل على تعليم أبنائى معرفة الله وحب الوطن ومعنى الأخوة الحقة ليشب أبناء الوطن وحدة قوية لديها الإيمان بالله والحب للوطن). فأثنى السيد الرئيس على وطنية البابا، وحبه لبلاده. وكان البابا صادقًا فى كل ما ذكره. عاش حياته مسنودًا بنعمة الله.
فى ٩ مارس ١٩٧١ رحل البابا العظيم، وكان الوداع أسطوريًا من الأقباط والمسلمين والمسئولين.