رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضياع العقل فى الفتن


عدت يوم السبت 19/5 ظهرًا من بيروت حيث حضرت مؤتمر المساعى الحميدة يومى 16/17 مايو 2013، وكان كل شىء ميسرًا فى مطار القاهرة حتى الجوازات وكشوف الأمن الدقيق، ولكن أفسد ذلك التيسير والفرح، به طول الانتظار لاستلام الحقائب، رغم أن المطار لم يكن مزدحمًا. كانت هناك طائرتان فقط صغيرتان قادمتان، من بيروت ومن بنغازى،

حتى سمعت أحدهما يقول لصاحبه - وقد جاءوا للاستمتاع والترويح فى مصر - يقول مع طول الانتظار: قلت لك بلاش من القاهرة؟ كانت تلك الكلمات الحادة كالخنجر. لماذا نسىء إلى مصر وسمعة مصر وسياحة مصر، ونفسد جمالها حتى يكرهها بعض السياح؟ جلست أنتظر وصول الحقائب، وكانت للأسف الشديد تأتى بالتقسيط، وقد تسلمت حقيبتى بعد خمسين دقيقة بالتمام والكمال، حتى سمعت أيضًا بعض التعليقات ومنها أن المطار يستخدم بعض الحمير والعربات الكارو بدلاً من السيور الكهربائية لنقل البضائع والحقائب.

فرحت أيضًا بالعقاب الذى نزل على المقصرين فى المطار فى تلك القضية بعد يومين من تلك الواقعة. هناك بعض القطاعات التى لا يصلح أن يضرب فيها الجميع عن العمل ضغطًا للاستجابة لمطالبهم، ويأتى على رأس هذه القطاعات معظم قطاعات المستشفيات خصوصًا غرف العمليات والحضانات للصغار، والطائرات والمخابز ويكفى أن يحمل طلباتهم شخص واحد أو بضعة أشخاص وتدرس طلباتهم بالسرعة الواجبة.

وقد تناولت فى كلمتى الرئيسية أمام مؤتمر «المساعى الحميدة» فى لبنان عدة محاور من أهمها: ضرورة الحذر من ضياع العقل فى الفتن، حيث إننى رصدت أنه فى الفتن الكبيرة يضيع العقل، فالفتنة عندما تقبل، كما يقول الحكماء، لايدركها إلا العاقل أو العالم أو الحكيم أو الفقيه الذى يعيش الواقع ويفهمه، وعندما تدبر الفتنة، يعرفها العاقل والجاهل، ولكن بعد أن تضيع الفرصة. وقد ضاع العقل العربى مرارًا وتكرارًا فى عصرنا الحديث، حتى بعد ثورات الربيع العربى. ضاع العقل فى فلسطين وزادت الأزمة أو النكبة، وضاع العقل فى أفغانستان واستمرت الأزمة، وضاع العقل فى العراق، وضاع العقل فى الصومال، وضاع العقل فى سوريا، وضاع العقل فى السودان. ما أسهل أن يضيع العقل فى العالم العربى والإسلامى، ولذلك كانت الحكمة تحمل خيرًا كثيرًا وفى ذلك، قال الله تعالى «ومن يؤتى الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا».

تناولت فى كلمتى أيضًا الخلل فى أن تكون هناك لجان رسمية كثيرة تبحث عن عمل ورغم ذلك ترصد لها الأموال وتجتمع وتنفض على كل المستويات، ولجنة المساعى الحميدة تثقلها المشكلات والتحديات التى تنتظرها قبل البدء.

وتناولت فى بحثى كذلك الخطر الصهيونى الأمريكى الذى يلتهم مقدرات الأمة بلدًا وراء بلد، ولانفطن له، وتقاد الأمة وتسير وراء قيادات جاهلة أو عميلة، وبعض علماء السلطان الذين يقودون البلاد إلى الوقوع فى هذا الخطر الداهم عمالة من بعض المسئولين فيها، أو جهلا بذلك الخطر، ونكون بذلك مثل الفراش الذى يموت باللجوء إلى مصادر الضوء والنور.

ومن المحاور التى تحدثت عنها فى ذلك المؤتمر المهم حركة التكفير التى تنتعش بانتعاش التكفير المضاد حيث انتعشت حركة التكفير فى العالم العربى والإسلامى، وهى حركة تدميرية لقلة الفقه، والبعد عن الوسطية، وسهولة الانضمام إلى هذا التيارالتكفيرى، وبعضه للأسف الشديد ينتسب ظلمًا وعدوانًا إلى التيار السلفى، والسلف منه براء. طالت حركة التكفير للأسف الشديد، حتى الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى، الذى دافع عن المفهوم العظيم، مفهوم التوحيد الخالص: لا إله الإ الله محمد رسول الله. كما أن الحكومات والأنظمة قد تنهار أو تتغير، ولكن الكيانات أى الدول يجب أن تظل ثابتة مهما كانت التحديات. ففى الصراع السورى السورى، الذى فتح الباب للتدخلات الأجنبية العالمية حتى ضم أمريكا وروسيا والصين وإيران والعالم العربى وغيرها، نظرًا لفشل المنظمة العربية (جامعة الدول العربية) ونظرًا لفشل المنظمة الإسلامية (منظمة المؤتمر الإسلامى) فى إيجاد حل سلمى للحفاظ على سوريا كدولة وكيان مهم فى العالم العربى قريب من فلسطين المحتلة. الذين دعموا المقاومة، بغض النظر عمن يحكم البلد، كانوا يتمنون معارضة واحدة قوية ومستقلة وفاعلة، والذين وقفوا مع خط الحفاظ على الدولة والكيان السورى، أبرزهم الإعلام المفتون التابع بأنهم يقفون مع النظام القاتل لشعبه، وأنهم يقفون مع أخطاء النظام ضد التغيير. ونحن مع ضرورة التغيير الذى طال أمده ولكن إلى الأحسن مع المحافظة على سوريا الدولة والكيان الذى كان مقاومًا ومعينًا للمقاومة فى لبنان وفى فلسطين. أما النظرة الاستراتيجية التى دعت إلى تبنى هذه النظرة فظلت مهملة ومبهمة، بل وقفت فى قفص الاتهام حتى ينفض عنها الناس، وينقسموا قسمين، كما انقسموا فى معظم قضايا الأمة المهمة. وفى الفتن الكبيرة وقف قسم مع النظام وقسم مع المعارضة التى انقسمت على نفسها عشرات المرات والكيانات، كما أننا نحمل من القضايا والتحديات والمشكلات أكثر مما تحمله كتف الأمة، وضاعت أولويات الحل، أين الخلل؟ ليس هناك اتفاق، كيف نبدأ الحل؟ ليس هناك اتفاق أيضًا.

أنا لست بشاعر محترف للشعر، ولكن الشعور بالأزمة التى تمر بها الأمة وإشفاقى عليها، جعلنى أنطق فى هذا المؤتمر، وأقول بيتًا من الشعر يتناول فتنة الأمة ويالها من فتنة:-

«جلت عن الأوصاف فتنتها (أوفجوتها).. حتى انتفت قيمتها فى المسرح الدولى»

فى هذه اللقاءات فوائد كثيرة، حيث يلتقى الإنسان بعض أصدقائه وإخوانه، ممن لم يرهم لسنوات طويلة. كان ممن لقيت من أصدقائى القدامى منذ السبعينيات الأستاذ أورهان أغوز أصيل ترك، نائب السياسى الفذ المجاهد نجم الدين أربكان فى حزب النظام ثم الرفاه ثم السعادة وكان أيضًا وزيرًا لداخليته، عندما كان البروفيسير أربكان رئيسًا لوزراء تركيا خلال سنوات التأسيس الإسلامى، الذى كان يسمى (بالمللى) وتعنى الكلمة «القومى» من ناحية، أو «الملة الإسلامية» من ناحية أخرى.

والله الموفق