رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بالحبر السورى الأحمر


لا تستطيع روسيا احتمال الفشل فى سوريا. ألقت بكل أوراق هيبتها هناك. الفشل يعنى فشل مشروع الثأر الكبير الذى حمله فلاديمير بوتين إلى الكرملين وأخفاه فى البداية تحت ابتسامته بانتظار التوقيت الملائم للتنفيذ. الثأر من القوى التى دفعت الاتحاد السوفيتى إلى متاحف التاريخ. ومن عالم القوة العظمى الوحيدة. ومن تحريك حلف الأطلسى بيادقه قرب حدود الاتحاد الروسى. ومن الثورات الملونة. والمجتمع المدنى. وكل أشكال القوة الناعمة التى لا تحتاج إذنًا لعبور الحدود.
لا تستطيع روسيا احتمال الهزيمة على الملعب السورى. الأمر يتعلق بموقعها. وهيبة جيشها. وقدرة دبلوماسيتها. وصورتها كحليف موثوق يمكن الاتكال عليه فى الشدائد. الفشل يعنى انهيار حلم استعادة الموقع وإرغام أمريكا على التعامل بندية مع البلاد التى خرجت مجروحة من الركام السوفيتى.
والنجاح فى سوريا يعنى بالنسبة إلى روسيا فرض حل سياسى وفق تصورها. وهذه المسألة ليست سهلة أو بسيطة. وكلما تعثرت محاولات موسكو فرض الحل الذى يلائمها تضاعفت رغبتها فى الذهاب أبعد بحثًا عن انتصار يحسم المعركة فى الميدان. والحسم الكامل يصطدم بصعوبات كثيرة فضلًا عن أنه مكلف. وتضاعف قلق موسكو بعدما ظهر فى الأشهر الأخيرة أن واشنطن غادرت سياسة مبايعة الحل الروسى لتعود إلى سياسة الإمساك بأوراق على الساحة السورية نفسها.
ربما هذا ما يفسر موقف روسيا خلال المفاوضات المضنية التى سبقت صدور قرار مجلس الأمن الأخير حول سوريا. تشعر موسكو أن الوقت الذى عمل فى السابق لمصلحتها بات يلعب ضدها. رسالة وزير الخارجية سيرجى لافروف كانت صريحة. لم يستبعد تكرار سيناريو حلب فى الغوطة الشرقية. إنه يضع القوى المعارضة للنظام السورى أمام خيار وحيد: الاستسلام والتوجه إلى سوتشى.
هذا لا يعنى أبدًا أن روسيا لم تحقق مكاسب كبرى عبر الساحة السورية. ثمة من يعتقد أن الطباخ الروسى استخدم النار السورية لفرض تغييرات أساسية على المشهد الدولى نفسه. أظهرت فصول المأساة السورية أن عالم القوة العظمى الوحيدة لم يعمر طويلًا. نفذت روسيا تهديدها بأنها لن تسمح بأن تتكرر على المسرح الدولى مشاهد شبيهة بتلك التى أدت إلى اقتلاع نظام صدام حسين ولاحقًا نظام معمر القذافى. نفذت أيضًا تهديدها بأنها لن تسمح للغرب بالإفادة من التباس متعمد فى قرارات مجلس الأمن لاستخدام القوة ضد نظام يدرج فى خانة أعداء الغرب كما حصل فى ليبيا.
فى بدايات الفصول الدامية فى سوريا استقبل بوتين زائرًا عربيًا. قال للزائر إن كثيرين يخطئون إذ يعتقدون أننا ندافع فى سوريا عن رجل أو أسرة. قال أيضًا إن طول الإقامة فى السلطة يؤدى إلى تراكم الأخطاء. لكنه شدّد على أن مسألة من يحكم سوريا يجب أن يحسمها الشعب السورى نفسه لا أن تُحسم من الخارج سواء بالقوة الفظة أو القوة الناعمة. ويمكن القول إن بوتين نفذ تهديداته فى هذا المجال أيضا.
أظهر بوتين خلال الأزمة أنه لا يتعرض لأى ضغوط جدية من الداخل. فقبل أن ينطلق إلى الخارج لتنفيذ برنامجه كان قد أحكم السيطرة على الداخل. أعاد ترميم الجيش الأحمر وروحه وأسلحته. أحكم قبضته على عالم الأعمال وأحكم قبضته أيضًا على الإعلام. ليس لديه رأى عام يقلقه. وضعه يختلف تمامًا عن الزعماء الغربيين. الصور المأساوية الوافدة من سوريا لم تحرجه. يسارع إعلامه إلى تصوير المستشفيات المدمرة ضحية للإرهابيين حتى ولو تهدمت بفعل قذائف روسية أو سورية.
استثمر بوتين إلى أقصى حد ما لحق بصورة أمريكا بعد قصة الخط الأحمر الشهيرة. كان موقف أوباما بداية انحسار الدور الأمريكى فى سوريا. اليوم تراهن موسكو على معركة تبدو قريبة. واضح أن إيران تضاعف ضغوطها على حيدر العبادى ليطالب بخروج الأمريكيين الكامل من العراق. خروجهم من هناك سيعجل أيضًا بخروجهم من سوريا المرتبط أصلًا بوجودهم فى العراق لمحاربة «داعش».
نجح بوتين أيضًا فى إظهار محدودية دور حلف الأطلسى. لا رغبة لدى الحلف فى الانخراط فى الحريق السورى. ثم إن الجيش الثانى فى الحلف من ناحية الحجم هو الجيش التركى الذى تشارك قيادته السياسية فى رعاية عملية سوتشى. الجيش التركى يقاتل فى عفرين بعد الحصول على ضوء أخضر روسى وتركيا الأطلسية ستحمى أجواءها بصواريخ وافدة من الترسانة الروسية.
أنهك بوتين أيضًا مجلس الأمن نفسه. ممثله هناك يحمل سيف الفيتو ويتربّص بأى قرار يمكن أن يعرقل البرنامج الروسى فى سوريا. لا يسمح المندوب الروسى بمرور قرار إلا بعد استنزاف مضمونه وتضمينه عبارات تبقى للقوة الروسية والسورية حق التحرك عسكريًا «ضد الإرهابيين». لا شك فى استمرار وجود مجموعات إرهابية على الأرض السورية لكن روسيا التى تسعى إلى ضرب هؤلاء تسعى فى الوقت نفسه إلى تطويع ما تبقى من المعارضة السورية لإرغامها على السير فى الحل الروسى الذى يحرص حتى الساعة على عدم الانفصال عن البرنامج الإيرانى فى سوريا مكتفيًا بتفهم قلق إسرائيل على «مصالحها».
نقلا عن «الشرق الأوسط» اللندنية