رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دروس إفريقية مجانية للعقلاء


لم ألتق الرئيس الجنوب إفريقى السابق جاكوب زوما، ولكننى كمتتبع للمشهد السياسى فى جنوب إفريقيا، أدرك أن شعبه أخذ عليه خمسة مآخذ هى:
١- اغتصاب شابة مريضة بالإيدز، وهو رئيس الهيئة الوطنية لمحاربة هذا الداء.
٢- إسرافه فى إجراء إصلاحات فى منزله فى ضاحية نكوندلا على حساب دافع الضرائب بتكلفة ٢٤ مليون دولار.
٣- علاقة مشبوهة بأسرة قبتا الثرية، وعلاقة مصالح بينها وبين ابنه «دودوزان» وما بينهما من صفقات على حساب المصلحة العامة.
٤- قبوله رشاوى ضمن صفقات شراء أسلحة من بعض مصدرى الأسلحة.
٥- عرقلته العدالة القضائية بعدم تنفيذ قرار محكمة الاستئناف العليا فى البلاد بخصوص الرئيس السودانى (٢٠١٥م).
مع كل هذه العيوب، وحقيقة أنه ما زال ملاحقًا قضائيًا فى بعضها، فإن هذا الرجل وهو يستمتع بسند قبلى كبير من قبيلة الزولو، وله سند مؤثر فى حزب المؤتمر الوطنى فى جنوب إفريقيا، قرر أن يمتثل لقرار حزبه وأن يستقيل من رئاسة الجمهورية، مع أن الدستور يمنحه عامًا لنهاية فترة رئاسته، ولكنه قرر الاستقالة وسيواجه ما يواجه من تبعات سياسية وقضائية دون الحصانة الرئاسية.
لقد قرر أن ينتصر للوطن وللديمقراطية على حساب مصالح ذاتية.
تحية تقدير لجاكوب زوما، ولعل شعبه يعامله بمنطق «الْحَسَنَات يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ».
أما الرئيس هايلى ماريام ديسالين فقد قابلته، وأشهدُ أنه رجل مثقف ويمثل أنموذجًا محترمًا لرجل الدولة الإفريقى. ولا شك أنه قاد بلاده فى مرحلة حرجة، ولكن التكوين الثقافى والإثنى والدينى لسكان إثيوبيا متعدد بصورة حادة، ومع مكانته السياسية والعلمية العالية فهو ينتمى لقبيلة صغيرة فى جنوب إثيوبيا، ولطائفة دينية مسيحية موحدة مقابل الأغلبية المثلثة بين المسيحيين فى إثيوبيا.

لقد قاد البلاد رئيسًا للوزراء منذ وفاة المرحوم ميليس زيناوى، وسِجل إدارته فى المجال الاقتصادى والعلاقات الدبلوماسية جيد، ولكن الحزب الحاكم ينتمى لإثنية التقراى فى الغالب لأن هذا الحزب، الجبهة الثورية الشعبية الديمقراطية، قاد الثورة الناجحة ضد نظام منجستو وأطاح به. النظام الفيدرالى الإثيوبى منح الولايات المختلفة صلاحيات لا مركزية كبيرة.

ومنذ ثلاث سنوات قويت المعارضة للحكومة القائمة، وقام تحالف بين الأمهرا والأورومو ضد ما يعتبرونه سيطرة التقراى. هذه المعارضة عبرت عن مواقفها باحتجاجات ومظاهرات ومواقف عصيان مدنى أثناء الثلاث سنوات الماضية. قابلتها الحكومة بالقمع والاعتقالات، وهو أسلوب لا يتوقع أن يكون رئيس الوزراء مطمئنًا له ولا مقتنعًا بفاعليته على المدى الطويل.
هذا الموقف القلق يفسر خطوتيه، الأولى: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والثانية: إخلاء مقعد الرئاسة بتقديم استقالته من أمانة الحزب الحاكم العامة ومن رئاسة الوزراء. إنه موقف مدرك للواقع، ومحيط بالعواقب، وملتزم بالمؤسسية والديمقراطية. ومع استقالته قال: إننى أعتبر استقالتى حيوية فى محاولة تنفيذ إصلاحات من شأنها أن تؤدى إلى سلام وديمقراطية مستدامين. والنتيجة «رحم الله امرأً عرف قدر نفسه»، ويرجى أن يقود موقفه لمراجعات سياسية مهمة تقوم على الوفاق الوطنى والتزام بالديمقراطية.
ومهما صارت إليه التطورات بعد عهد هيلى مريام فى الرئاسة، يحمد له هذا الموقف ليضع الجميع أمام مسئولياتهم الوطنية.
تحية تقدير للرئيس هيلى مريام ديسالين، وأطيب التمنيات للشعب الإثيوبى الشقيق أن يجعل من الأزمة فرصة لإصلاح المسار نحو المستقبل.
هذان درسان إفريقيان لعالم عربى يُلصَق رؤساؤه على مقاعد الرئاسة عشرات السنين رغم إخفاقات كاسحة، ورغم نصوص دستورية مانعة، ولا تفصلهم من المقاعد إلا الثورات أو الممات.
ليت اللاصقين فى مقاعد الرئاسة رغم الفشل الذريع ورغم الدساتير المانعة يتعظون من هذين الدرسين الإفريقيين.
والعناية تبعث نسائم ذات مضمون تكريمى للإنسان، فأثناء التحركات الشعبية الأخيرة فى إيران أطل الرئيس حسن روحانى ليقول ينبغى أن نستمع لصوت الشعب، وإن اختلفت الرؤى نلجأ للاستفتاء.
ومن المملكة العربية السعودية تطل أصوات لتحطيم البناءات الجامدة تناغمًا مع نداءات الإصلاح.
إن للدرسين الإفريقيين فى هذا المناخ المستمع لأصوات الشعوب وقعًا مهمًا للعاقل الذى يتعظ بغيره، والمؤمن الذى يقول: «إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ».
ولكن قدر كثير من بلداننا الإصابة بصمم، فلا يسمعون إلا طبول الثورات والانتفاضات. لهؤلاء نردد مع الشاعر العراقى أحمد مطر:
طفح الليل..
وماذا غير نور الفجر بعد الظلمات؟.