رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا «2-2»




استكمالًا للمقال السابق أردت أن أوضح للقارئ الكريم أن للفرقان معانى متعددة فى اللغة، فالفرقان مصدر مأخوذ من الجذر اللغوى (فَرَقَ). والفرقان على العموم: هو كل ما فُرِقَ به بين الحق والباطل؛ ولهذا سمى كُلٌّ من الكتب السماوية عمومًا، والقرآن الكريم خصوصًا بالفرقان. والفرقان: هو اسم لإحدى سور القرآن الكريم. يأتى الفرقان أيضًا بمعنى: الحُجَّة، والحُجَّة: هى البرهان والدليل. كما يأتى أيضًا بمعنى: النصر، حيث سُمى يوم بدرٍ بيوم الفرقان، بالإضافة إلى أن الفرقان هو اسمٌ من أسماءِ الصُّبْح.
وقد يحصل الفرقان بالإيمان والتقوى، كما بيّن الله تعالى فى هذه الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»، وهو فرقانٌ يجعله الله فى قلب المؤمن المتقى يميز به بين الحق والباطل، ويجعل له به مخرجًا من المضايق، وينجّيه به مما يخاف منه؛ وقد فسّر السلف الفرقان فى هذه الآية بهذه التفسيرات الثلاثة وهى حق كلها، ففسّره مجاهد بأنه المخرج، وفسره عكرمة بأنه النجاة، وفسّره عبدالرحمن بن زيد بن أسلم بأنه الفصل بين الحق والباطل. والفرقان يشمل ذلك كلّه، بل يشمل النصر على الأعداء واندحار الباطل.
ونستكمل هنا بعض ما قاله أهل التفسير فى معنى هذه الآية الكريمة العظيمة المعنى والفوائد: وفى تفسير البغوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ) بطاعته وترك معصيته، (يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) قال مجاهد: مخرجًا فى الدنيا والآخرة.. وقال مقاتل بن حيان: مخرجًا فى الدين من الشبهات. وقال عكرمة: نجاة أى يفرق بينكم وبين ما تخافون. وقال الضحاك: بيانًا. وقال ابن إسحاق: فصلًا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفئ باطل من خالفكم. والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان. (وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
وفى تفسير ابن عاشور فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا»: استئناف ابتدائى متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى:{يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه }[الأنفال: ٢٠] الآية وما بعدها من الآيات إلى هُنا. وافتتح بالنداء للاهتمام، كما تقدم آنفًا.. وقد خوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيرًا لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفًا فى نظائِره، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه، بالترغيب فى التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى.
ففعل الشرط مراد به الدوام، فإنهم كانوا متقين، ولكنهم لما حُذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة فى مقابل ذلك.. ولقد بَدَا حُسنُ المناسبة إذ رُتبتِ على المنهيات تحذيراتٌ من شرور وأضرار من قوله:{إن شر الدواب عند الله الصم البكم}. وقوله {واتقوا فتنة}، ورتب على التقوى: الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل.. وقد أشعر قوله: {لكم} أن الفرقان شىء نافع لهم، فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد، فيؤول إلى استقامة أحوال الحياة، حتى يكونوا مطمئنى البالِ، منشرحى الخاطر وذلك يستدعى أن يكونوا: منصورين، غالبين، بُصراء بالأمور، كَمَلة الأخلاق، سائرين فى طريق الحق والرشد، وذلك هو ملاك استقامة الأمم، فاختيار الفرقان هنا، لأنه اللفظ الذى لا يؤدى غيرُه مُؤداه فى هذا الغرض وذلك من تمَام الفصاحة.
والتقوى تشمل التوبة، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التى تعقبها التقوى. ومفعول {يغفر لكم}، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب. وهو الصغائر التى عبر عنها باللمم، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائِر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبَة لها، وقيل التكفير: الستر فى الدنيا، والغفران: عدم المؤاخذة بها فى الآخرة، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائِدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأى احتمال.
وقوله: {والله ذو الفضل العظيم} تذييل وتكميل، وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى.. وفى كتاب الميزان فى تفسير القرآن نقرأ تفسير معنى قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا»: الفرقان ما يفرق به بين الشىء والشىء، وهو فى الآية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحق والباطل، سواء كان ذلك فى الاعتقاد بالتفرقة بين الإِيمان والكفر وكل هدى وضلال أو فى العمل بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكل ما يرضى الله أو يسخطه، أو فى الرأى والنظر بالفصل بين الصواب والخطأ فإن ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، وقد أطلق الفرقان فى الآية ولم يقيده وقد عدّ جمل الخير والشر فى الآيات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان.
ونظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وقد تقدم الكلام فى معنى تكفير السيئات والمغفرة، والآية بمنزلة تلخيص الكلام فى الأوامر والنواهى التى تتضمنها الآيات السابقة، أى أن تتقوا الله فلم يختلط عندكم ما يرضى الله فى جميع ما تقدم بما يسخطه ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم. وبالله التوفيق.