رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أم كلثوم تكتب: كيف عرفت عبدالناصر؟

عبدالناصر
عبدالناصر

صدر مؤخرًا عن سلسلة «كتاب اليوم» كتاب «مذكرات الآنسة أم كلثوم ووثائق أخرى»، من إعداد الكاتب الصحفى محمد شعير، وذلك بمناسبة مرور ٤٣ عامًا على رحيل كوكب الشرق.
ويتناول الكتاب - الذى جمعه شعير من أرشيف الصحافة المصرية - المذكرات والمقالات التى كتبتها فى الصحافة وعلاقتها بالرئيس عبدالناصر، وحوارها مع الأستاذ هيكل.

«الدستور»، احتفاء بذكرى رحيل أم كلثوم التى لا تبتعد كثيرًا عن مئوية عبدالناصر، تنشر مقالًا لـ«أم كلثوم» حمل عنوان «كيف عرفت عبدالناصر؟» نشر بمجلة «الهلال» عام ١٩٧١.

أول لقاء جمعنى به كان بعد عودته من حرب فلسطين والثانى كان يوم قيام ثورة ٢٣ يوليو
لا أزال أذكر أجمل الذكر، المرة الأولى التى رأيت فيها جمال عبدالناصر. كان ذلك فى عام المأساة الكبرى فى تاريخ الأمة العربية. مأساة فلسطين سنة ١٩٤٨. حين هبت مصر للذود عن الأرض السليبة. وذهب الجيش إلى هناك، وكان على أبواب النصر لولا أن دبرت له الدول الكبرى المؤامرة التى انتهت بخدعة الهدنة الأولى ثم الثانية، فانقلب النصر إلى هزيمة وحوصر أبناؤنا فى الفالوجة حصارًا قاسيًا مريرًا. أبدوا خلاله ألوانًا أسطورية من البطولات فى الصمود فى وجه العدو، كانت مثار إعجاب العالم.
كنت أتتبع أنباء إخوتى وأبنائى أبطال الفالوجة يومًا بيوم، وساعة بساعة، وقلبى معهم يخفق لهم فى كل لحظة، ويضرع إلى الله أن يؤيدهم فى صمودهم العظيم إلى أن يردهم إلينا سالمين. واستجاب الله للدعاء وعاد أبطال الفالوجة إلى القاهرة وعلى رأسهم قائدهم البطل المرحوم السيد طه الذى اشتهر يومئذ باسم «الضبع الأسود».
ودعوتهم جميعًا - جنودًا وضباطًا - إلى حفلة شاى فى بيتى، ووجهت الدعوة كذلك إلى وزير الحربية فى ذلك الحين، الذى اتصل بى معتذرًا عن عدم استطاعته تلبية الدعوة. وأضاف أنه لا يرى ضرورة لدعوة الضباط والجنود أيضًا.
واستغربت منطقه وقلت له:
- لقد وجهت إليهم الدعوة وانتهيت، وسأكون سعيدة بهذا اللقاء بهم، فإذا شرفتنا بالحضور فأهلًا وسهلًا. وإذا لم تستطع فهذا شأنك.
وجاء الأبطال إلى بيتى، واستقبلتهم بدموع المصرية الفخورة بأبناء مصر، وجلست بينهم وأنا أشعر أنهم أسرتى، صميم أسرتى، إخوتى وأبنائى، وأذكر أننى أقمت لهم فى حديقة البيت محطة إذاعة صغيرة تذيع عليهم ما يطلبون من أغنياتى. وقدم لى «الضبع الأسود» ضباطه وجنوده واحدًا واحدًا، وحدثنى عن أصحاب البطولات الكبيرة منهم، وكان فى مقدمة أصحاب هذه البطولات الضابط الشاب جمال عبدالناصر.
وشددت على يده وأنا أصافحه وأتأمل ما يتألق فى عينيه من بريق الوطنية وحدّة العزم وعمق الإيمان. وكان هذا هو أول لقاء لى بالبطل قبل أن يلعب دوره التاريخى فى حياة مصر بأربع سنوات.
أما اللقاء الثانى، فكان يوم قيام الثورة بالذات. كان المؤذن قد انتهى لتوه من أذان الفجر، حين اتصل بى ابن أختى - وكان يومئذ ضابطًا بسلاح الإشارة - وقال لى:
- أبشرى، لقد حقق الله سبحانه وتعالى الأمل الكبير الذى طالما كنت تحلمين به. لقد قامت الثورة، اسمعى الإذاعة.
كنت يومئذ أصطاف بالإسكندرية، وهرعت إلى الراديو، وسمعت أنور السادات بصوته القوى المؤمن يبشر الناس بقيام الثورة، ويتلو البيان الأول الذى خرجت مصر على صيحته تتنسم أنفاس الحرية. كان شيئًا كالأحلام، بل أجمل من الأحلام، ونهضت على الفور وأعددت عدتى للسفر إلى القاهرة. اتجهت إلى مطار الإسكندرية وهناك وجدت بعض أعضاء الوزارة القائمة يومئذ - وزارة نجيب الهلالى - يتأهبون لركوب الطائرة لتذهب بهم إلى القاهرة.
وسألنى أحد الوزراء:
- لماذا أنت ذاهبة إلى القاهرة؟
قلت له بمنتهى الصرامة:
- قل لى أنت، لماذا أنتم ذاهبون إلى القاهرة؟
قلت له لسبب ذهابك، واستغربت لأننى كنت واثقة أنهم ذاهبون لعلهم يحاولون الوقوف فى وجه القدر. ولكن يد الله كانت فوق أيديهم وبقيت الثورة واستقرت فى أعماق التاريخ. أما هم فقد ذهبوا مع الريح، ونزلت من الطائرة، ذهبت إلى إدارة الجيش بكوبرى القبة رأسًا، لأهنئ الأبطال الثائرين على الظلم والبغى والطاغوت الذين وثبوا ليضعوا نهاية تاريخية لعهود الظلام. وكنت أتصور وأنا أتسرب إلى مبنى إدارة الجيش، أننى لن أعرف منهم أحدًا.
ولكنى عندما قلبت عينىَّ فى وجوه هؤلاء الأبطال. لم ألبث أن تبينت أننى أعرف من بينهم تلك الوجوه الحبيبة المؤمنة. وجوه أبطال الفالوجة الذين احتفيت بهم فى بيتى منذ أربع سنوات، وفى طليعتهم وجه جمال عبدالناصر. وتصافحنا للمرة الثانية، وقد ازداد فى عينيه هذه المرة بريق الإصرار على النصر.
وعدت إلى بيتى فى القاهرة، واتصل بى الأستاذ الشاعر أحمد رامى، وسألته أن يعجل بنظم تحية أقدمها للثورة. فقدم لى الأغنية التى مطلعها:
- مصر التى فى خاطرى وفى فمى أحبها من كل روحى ودمى بنى الحمى والوطن من منكم يحبها مثلى أنا.

حين سمعت خبر وفاته قلت: «لطفك يا رب.. يا ترى مصيرنا إيه؟»
توالت الثورة بمسيرتها المنتصرة بقيادة جمال عبدالناصر، وتوالت الأحداث وخرج الإنجليز من مصر، وانكسر احتكار السلاح، وأُممت القناة، وقام العدوان الثلاثى وانتصرت مصر مرة أخرى، وأُقيم السد العالى، وأنا أنفعل بهذه الأحداث. حدثًا وراء حدث. وأترجم كل انفعال إلى أنشودة من أناشيد الثورة. وهى خير ذخر أعتز به فى حياتى. ومنها «منصورة يا ثورة أحرار»، و«طوف وشوف»، و«يا حبنا الكبير»، و«على باب مصر».
غير أن هناك أنشودتين من بين كل الأناشيد، أحسست بانفعال أعمق وأنا أغنيهما. وقد ظللت أستشعر عمق الانفعال كلما ذكرتهما، الأولى: الأغنية التى غنيتها لناصر. يوم كتب الله له النجاة من الحادث الأثيم الذى أطلق فيه عليه الرصاص بالإسكندرية. يوم غنيت له: أجمل أعيادنا الوطنية، بنجاتك يوم المنشية.
والثانية عقب النكسة، يوم أعلن جمال ذلك النبأ الأسود، الذى انخلع له قلب مصر، وقلب الأمة العربية، نبأ تنحيه. وكنت، منذ الساعة التى تأكدت فيها أنباء النكسة، خاصمت النوم، ولم يعد لى هم بالليل ولا بالنهار إلا التفرغ لدموعى. وأتوجه إلى الله فى صلاتى أن يمدنا بالأمل لإنقاذنا. فلما أعلن جمال عبدالناصر نبأ تنحيه، فقدت الرجاء فى إطلالة الأمل.
وكنت أتصل بأصدقائى، وأصدقائى يتصلون بى، لعل أحدنا يجد عند الآخر نبأ يكشف الغُمّة. ولا حديث لنا إلا عن المأساة التى ازدوجت وأطبق عليها اليأس بتنحى «جمال» عن مكانه، وفى تلك الليلة قلت لصالح جودت تليفونيًا:
- إن الأمل الباقى، هو أن يبقى جمال عبدالناصر فى مكانه.
وبعد منتصف الليل. اتصل صالح جودت بى. وتلا علىّ المعنى منظومًا فى أنشودة تحمل صورة نداء لجمال. مطلعها: قم واسمعها من أعماقى فأنا الشعب ابق فأنت السد الواقى لمُنى الشعب ابق فأنت الأمل الباقى لغد الشعب ابق فأنت حبيب الشعب.
وأملاها بالتليفون وأيقظت رياض السنباطى، وأمليتها عليه، ولم ينم السنباطى. وفى الصباح انتهى من تلحينها، وبعد يوم سجلتها وقدمتها الإذاعة لجماهير ٩ و١٠ يونيو. التى خرجت تحت قنابل العدو تطالب ببقاء جمال وبقى جمال، وعاد الأمل يطل من جديد.
لقيت جمال عشرات المرات، فى مختلف المناسبات، وكان لا يفوته فى كل حفلة أغنى بها ويشهدها فى نادى الضباط أو جامعة القاهرة، أن يدعونى أثناء الاستراحة وتدور بيننا أحاديث عن الفن. كان معتزًا بالفن المصرى، قوى الإيمان بأن الفنانين كتيبة من كتائب المعركة ترسى دعائم الوحدة، وتؤصلها فى نفوس العرب. وتحرك العزائم ليوم عظيم، تتغلب فيه هذه الأمة على أعدائها وتحتل المكان اللائق بها. وتثبت أنها خير أمة أخرجت للناس. وكان جمال إنسانًا بكل ما فى كلمة الإنسانية من معنى. كان يرى فى ولده خالد رمزًا لجيل الثورة. ويحس نحو كل ابن من أبناء الجيل بنفس إحساسه نحو خالد.
كان جمال يذكر الله فى كل موقف. وكان لأغانى رابعة العدوية وقع خاص فى نفسه. لتصوفها وروحانيتها. وكثيرًا ما كان يقول لأهل الفن إن أغانى رابعة العدوية يجب أن تكون نصب أعينهم كأنموذج لمثالية الغناء، وكان حبه للغناء والموسيقى دليلًا على حسه المرهف، إلى حد أنه كثيرًا ما كان يعمل فى مكتبه وهو يستمع للغناء. وكنت أشعر بالفخر حين أسمع أنه يطلب أغنياتى فور تسجيلها وقبل أن تذاع على الناس.
كنت أعرف أنه متعب القلب. ومع هذا يبذل من روحه وجسده فوق طاقته لخدمة مواطنيه ورفعة شأن وطنه، وآمنت به وبما يفعل، وفى حدود طاقتى. حاولت أن أحذو حذوه وأتخذ منه أسوة حسنة، ولهذا لم أستسلم لليأس بعد النكسة.
لم يكن أمامى إلا أحد أمرين، فإما أن ألتزم الصمت، وأقبع فى ركن من الانهيار النفسى، وإما أن أمضى بسلاحى - صوتى - أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة. واخترت الأمر الثانى.
أحسست أننى أقف وراء عبدالناصر. لو غنيت داخل وخارج الحدود لأرفع صوتى باسم وطنى، وأجمع ما أستطيع جمعه من عتاد للمعركة، لعلى أرد جميل مصر. وبعد جميل البطل الذى يحترق من أجل مصر، والذى كرم الفن أجمل تكريم، والذى زين صدرى بأرفع وسام فى الدولة، وأعز قدرى بجائزة الدولة التقديرية للفنون. هذه الجائزة التى أحسست أن عبدالناصر لا يكرمنى بها وحدى. وإنما يكرم بها جميع إخوانى، خدام الفن. ولهذا تبرعت بمنحتها المالية لصندوق الفنانين.
وبهذا الدافع غنيت فى كثير من المحافظات بعد العدوان، وغنيت فى ليبيا، وتونس والمغرب والسودان ولبنان والكويت وباريس، وكان آخر المطاف فى موسكو. ذهبت لأغنى لهؤلاء الأصدقاء الذين وقفوا معنا فى المعركة.
ولم أكن أدرى ما يخبئ القدر وأنا فى موسكو إلا حينما أيقظنى ابن أختى فى الصباح الباكر. وهو يجاهد نفسه ويجالدها ليلتمس الوسيلة التى يقول لى بها إن عبدالناصر قد ذهب للقاء الله، وإن مصر فجعت فى أعز ما تملكه. ورحت أصرخ: مصر، وطنى، بلدى، مصير بلدى، المعركة، ما المصير، يا رب، لطفك يا رب.
وعدت من موسكو دون أن أغنى أسائل نفسى:
- هل أستسلم ليأس كيأس النكسة؟ أو بنفس الإيمان الراسخ فى أعماقى، الإيمان الذى تعلمته من عبدالناصر، أخرج اليأس من وراء ظهرى وأمضى فى طريقى أغنى للنصر حتى يوم النصر.
ومرت الأيام وتمثل لطف الله فى قضائه، فى شخص ذلك المجاهد الشريف الرئيس أنور السادات الذى كان ضمادًا كبيرًا للجرح الكبير، وامتدادًا رائعًا لروح عبدالناصر التى لن تموت.