رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا



كما عرفنا أيها القارئ الكريم فى المقال السابق أن الآية الكريمة ذكرت فى القرآن مرتين، مرة فى سورة النحل (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ». وهى فى بيان صفات الله فختمها بقوله (إن الله لغفور رحيم). والمرة الثانية وهى موضوع المقال فى سورة إبراهيم «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ». فهى بيان صفات الإنسان وجحوده، فلما كانت فى بيان صفات الإنسان وجحوده ختمها «إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ»، يعنى حينما يكفر هذه النعمة، لا يظلم ربه، بل يظلم نفسه.
وهذا حديث آخر عن ظلم الإنسان لنفسه. (عَنْ أَبِى ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا، يَا عِبَادِى: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِى، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى، إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِى: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ).
ونذكر هنا بعض التفسيرات لهذه الآية الكريمة «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ»: ففى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ): يُخبر عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلًا عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب - رحمه الله -: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين.. وفى صحيح البخارى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفى ولا مودع، ولا مستغنى عنه ربنا».. وقد روى فى الأثر: أن داود - عليه السلام - قال: يا رب، كيف أشكرك وشكرى لك نعمة منك علىّ؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتنى يا داود، أى: حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم.
وقال الشافعى -رحمه الله-: الحمد لله الذى لا يؤدى شكر نعمة من نعمه، إلا بنعمة توجب على مؤدى ماضى نعمه بأدائها نعمة حادثة توجب عليه شكره بها.. وفى تفسير القرطبى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا»: أى نعم الله، لا تحصوها ولا تطيقوا عدها، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق، نعم لا تحصى وهذه النعم من الله، فلِمَ تبدلون نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعنتم بها على الطاعة ؟!.. «إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص، قال ابن عباس: أراد أبا جهل. وقيل: جميع الكفار.. وفى تفسير ابن عاشور فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}: تأكيد للتذييل وزيادة فى التعميم، تنبيهًا على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم.
فمعنى{وَإِن تَعُدُّواْ} إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه. وذلك مثل النعم المعتاد بها التى ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة التنفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة. وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره.. والإحصاء: ضبط العدد، وهو مشتق من الحَصَا اسمًا للعدد، وهو منقول من الحصى، وهو صغار الحجارة، لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبًا للغلط.
وآية{إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} والمراد بـ{الإِنسَانَ} صنف منه، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها، فالإنسان هو المشرك، مثل الذى فى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [سورة مريم: ٦٦ ]، وهو استعمال كثير فى القرآن.. وصيغتا المبالغة فى {ظلوم كفار} اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغنى عنهم شيئًا، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره.
أما فى كتاب الميزان فى تفسير القرآن فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}: قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد يُقال: أحصيت كذا وذلك من لفظ الحصا واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه بالعدّ كاعتمادنا فيه على الأصابع.. وفى الآية إشارة إلى خروج النعم عن طوق الإِحصاء ولازمة كون حوائج الإنسان التى رفعها الله بنعمه غير مقدور للإِنسان إحصاؤها.
وكيف يمكن إحصاء نعمه تعالى وعالم الوجود بجميع أجزائه وما يلحق بها من الأوصاف والأحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها فى بعض، متوقف بعضها على بعض، فالجميع نعمة بالنسبة إلى الجميع وهذا أمر لا يحيط به إحصاء.. ولعل ذلك هو السر فى إفراد النعمة فى قوله: {نعمة الله} فإن الحق أن ليس هناك إلا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدلّ على الكثرة، والمراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده الجمع.. وقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} أى كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر نعمة الله ويكفر بها فيؤديه ذلك إلى البوار والخسران، أو كثير الظلم لنعم الله لا يشكرها ويكفر بها، والجملة استئناف بيانى يؤكد بها ما يستفاد من البيان السابق، فإن الواقف على ما مرَّ بيانه من حال نعمه تعالى وما آتى الإِنسان من كل ما سأله منها لا يرتاب فى أن الإِنسان وهو غافل عنها طبعًا ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه. وللحديث صلة. وبالله التوفيق.