رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من عفرين إلى زقاق جعفر




تقدمت القوات التركية مع قوات الجيش السورى الحر، إلى منطقة عفرين السورية الأحد ٢١ يناير ٢٠١٨، بعد يوم على إعلان أنقرة بدء عمليات أطلقت عليها اسم «غصن الزيتون»، بهدف ضرب الإرهابيين، على حد قولها، فى مخابئهم، ومواقعهم وأسلحتهم، وعرباتهم، ومعداتهم، مع عدم إلحاق الأذى بالمدنيين.
كان هذا التقدم نتيجة لإطلاق بعض الصواريخ من الأراضى السورية على مدينة كليس التركية، الواقعة على الحدود مع سوريا بحسب ما ذكرته وكالة الأناضول، حيث بيّن المحافظ، الذى قال بأن أربعة صواريخ ضربت مواقع فى المدينة، فألحقت أضرارًا ببعض المبانى وأصابت شخصًا بجروح.
لقد أخذت تركيا الضوء الأخضر من روسيا وإيران، وسط صمت من أمريكا، التى تدعم الأكراد، خاصة فى عفرين، لكن أخشى ما أخشاه أن تكون تركيا قد سقطت فى الأوحال السورية، وأن أصدقاءها هم الذين زينوا لها ذلك، وإنى على يقين من أن تركيا وضعت خطتها للدخول والانسحاب، وترك الجيش الحر السورى يقاتل وحده تحت غطاء جوى تركى.
ذكرتنى هذه الحرب وما تقوم به تركيا من تفجيرات على حدود مدينة عفرين، بالأيام الخوالى، عندما نقلنا من منزلنا المؤقت فى باب المجيدى إلى زقاق جعفر فى المناخة بالمدينة المنورة، وأنا فى السادسة من العمر عام ١٣٦٨ هـ كان منزلنا مجاورًا لقلعة تركية داخل طرف من أطراف جبل سلع، تقع فى باب الكومة، الذى يبعد عن منزلنا مسافة مائتين من الأمتار، كانت القلعة يخزن فيها الأتراك الأسلحة والذخائر، لكى تقدم الإمدادات للجيوش التركية التى تقاتل فى اليمن، لكن هذه القلعة انفجرت وألقت بالقُلل والمتفجرات على المنازل من حولها وهدمت المبانى والدور، ولم يبق منها إلا منزلنا الذى قاوم بجدارة، لأن بناءه كان محكمًا.
لقد ثارت القلعة ثورتين، الأولى كانت آخر أيام حكم الأتراك، والثانية حدثت فى عهد الأشراف، والمعروف أن المواد المتفجرة إذا وصلت إلى حد معين من الحرارة والجفاف، فإن ذلك يتسبب فى تفجيرها فى المستودعات، وكانت الذخائر التركية تبرد وترطب بالماء، وأثناء ثورة القلعة الثانية توفيت زوجة والدى الأولى وهى فى المخاض.
بينما كانت زوجة أبى تصارع الموت وهى فى المخاض، أخذت والدى سنة من النوم، رأى فيما يراه النائم أن طفلة ولدت للتو، ورجلًا يقرأ القرآن «الله نور السماوات والأرض» وهاتفًا يقول له: يا ماجد إن هذه زوجتك، ظل والدى بعدها ثمانية عشر عامًا لم يتزوج ثم تزوج بوالدتى، وعندما قصّ علىّ جدى الرؤيا قال له الشيخ قاسم عبدالجبار، عالم الحديث والتفسير، زوج أمها: إن اليوم الذى ثارت فيه القلعة هو اليوم الذى ولدت فيه زوجتك منور.
كان فى بيتنا قبر الشيخ عبدالله الأنصارى لا أعلم من هو، لكنى أعلم أن جدى ضم أرضه إلى المنزل، ليدخل القبر فى البيت، ضمه، لأن البعض كان يتبرّك به، فأوقف هذا التبرّك بضم القبر إلى المنزل، أثناء انفجار القلعة وكانت القُلل تتطاير وتنفذ إلى داخل المنزل، كانت عمتى تقول: أنقذنا يا شيخ عبدالله، وكان والدى يقول لها: اتقى الله إن هذا لا يجوز، اسألى الله أن يصرف عنا المقذوفات، ظلت تسأل الشيخ عبدالله ذلك ولم تغير من استغاثتها، حتى رأت أن قُلة من القُلل ضربت قبر الشيخ عبدالله، فقال لها والدى: أرأيتِ أنه لم يتمكن من حماية نفسه، فغيرت دعاءها وأخذت تتجه إلى الله.
كان منزلنا القديم الذى انتقلنا إليه قد أُعيد تأهيله، فكان منزلًا واسعًا يبعث البهجة فى النفس، فكانت هناك فسقية، وهى عبارة عن بِركة عند المدخل، كما أن هناك حديقة أمام الديوان، هذه الحديقة قال فيها جدى أنور مصطفى عشقى:
وروضة ما رضيت عنها بملك كسرى ولا بقيصر
فكيف وهى المنى وعشقى بها وزهر الرياض أنور
كما أن هناك بئرًا ننزح منها الماء لنسقى بها الزراعة، وهناك القاعة تمثل مكانًا للمعيشة، وتتكون من دكّتين، بينهما فراغ يعلوه (جلاء) وهى فتحة إلى السماء.
كانت والدتى قبل النوم تقرأ علينا بعض القصص المشوقة، مثل عنتر بن شداد، وفيروز شاه، ولعل هذا ما عزز فى نفسى حب القراءة، ثم تطور الأمر لتقرأ علينا روايات تاريخ الإسلام لجورجى زيدان، فى الصباح وبعد الإفطار، كنت أذهب إلى المدرسة التى التحقت بها.
كانت مدرسة النجاح تقع على الحافة الغربية للمناخة، وتطل على شارع العُيينة، وتقع على مدخل زقاق الطيار، هذا الزقاق الذى ينقسم إلى قسمين: قسم أيمن يسمى زقاق الطيار وينفذ يسارًا إلى حوش كرباش، وينتهى بباب الكومة وقسم أيسر وينفذ إلى وادى السيح، وبينهما حوش صغير يسمى «حوش درج»، ويقع زقاق الطيار غرب المسجد النبوى من شارع المناخة، ويبدأ من شمال مسجد على بن أبى طالب الذى لا يزال قائمًا حتى اليوم، وزقاق الطيار يضم عدة أحوشة، مثل حوش خيرالله، وحوش قمر، وحوش الحربى، وحوش وردة، وحوش الرشايدة، وحوش شلبية، وحوش السمان، وحوش فسيح، وحوش العريضة، وحوش القماش، وحوش إشبيلية.
كان والدى مديرًا لمدرسة النجاح، وكان عبدالفتاح كردى مساعدًا له، وهو والد الدكتور خليل كردى، الأستاذ بجامعة الرياض وعضو مجلس الشورى حاليًا، فمكتب المدير يطل على المناخة وعلى شارع العُيينة الذى ينتهى إلى المسجد النبوى.
دخلت على مكتب المدير يومًا، فوجدت المدرسين يشاهدون موكب الرئيس محمد نجيب وبعض رجال الثورة المصرية، وهم يتجهون إلى المسجد النبوى لأداء الصلاة وزيارة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك عام ١٩٥٢، فقد أخذتهم السيارات إلى باب السلام، وهناك خلعوا أحذيتهم وأودعوها لدى بواب المسجد.
اتجهوا على التو إلى قبر النبى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبوبكر وعمر، وقاموا بالزيارة ثم جلسوا فى الروضة يرتقبون قيام الصلاة، وفى عام ١٩٥٤ أدى الرئيس جمال عبدالناصر فريضة الحج مع رجال الثورة، أما آخر الرؤساء الذين قاموا بأداء فريضة الحج وزيارة المسجد النبوى، فهو الرئيس عبدالفتاح السيسى وذلك فى ١١ أغسطس ٢٠١٣.
درست شطرًا من حياتى الابتدائية فى مدرسة النجاح التى تنتصب أمام شارع العُيينة والمسجد النبوى، وتابعت الابتدائية بالمدرسة نفسها بعد أن انتقال المدرسة إلى باب الشامى إلى منزل بيت بن سليم، كان هذا البيت أكثر سعة من السابق، وكان يطل على جبل سلع وليس بينهما فى ذلك الوقت مبانٍ تحجب الجبل، بقيت فى هذه المدرسة حتى أنهيت الشهادة الابتدائية.
عندما انتقلنا إلى مدرسة باب الشامى كان معاون المدير أو مساعده هو الأستاذ محمد إدريس المدنى، وكان يتمتع بشخصية مؤثرة، فكنت كلما شاهدت فيما بعد «سيدنى بواتييه»، الممثل الأمريكى أتذكر الأستاذ محمد إدريس رحمه الله لما بينهما من شبه شديد.
أما فى الفصل، فكان يجلس إلى جوارى من جهة اليمين الشيخ إبراهيم الأخضر الذى أصبح فيما بعد أحد أئمة المسجد النبوى، وشيخ القراء بالمدينة المنورة، أما على يسارى فكان عبدالغفور هندى، كنا أصدقاء وزملاء، وكان أكثرنا كرمًا وخلقًا هو عبدالغفور، وذات يوم قال لى إبراهيم الأخضر: إن عبدالغفور رأى فى المنام النبى صلى الله عليه وسلم فى سوق البرسيم بالمناخة، بجوار مسجد الخريجى، فقال له: يا رسول الله ادع لى، فاتجه النبى صلى الله عليه وسلم إلى القِبلة ورفع يده بالدعاء قائلًا «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه»، فذهبت إلى أبى وذكرت له الرؤيا، فقال أبى: اذكر لى بعض الدعاء وذكرته له، فقال: إن عبدالغفور سيموت اليوم.
فى اليوم الثانى لم يأت عبدالغفور إلى المدرسة، ونودى عليه، فقيل إنه غائب وفى اليوم الثانى لم يأت فقال أحد الطلاب إنه مات، فبكى الفصل عليه، ثم سألت أبى بعد أن عدت إلى المنزل قائلًا: كيف عرفت أنه سيموت ؟ فقال لى بأن تكملة الدعاء هى (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا ينقى الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).
بعد ثلاثين سنة التقيت بالشيخ إبراهيم الأخضر مع الشيخ حماد الأنصارى والدكتور الخطراوى بمنزل الشيخ عبدالعزيز بن صالح أمام المسجد النبوى ورئيس المحاكم الشرعية للسلام عليه، وذكَّرت الشيخ إبراهيم الأخضر بالقصة فوجدته لا يزال يذكرها.