رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة الله لاَ تُحْصُوهَا «1-2»


أيها القارئ الكريم، هناك آية من القرآن نقرأها دائمًا، ولكن منا من لم يفكر فيها جيدًا أو حتى يتأملها. آية عظيمة مهمة ومن المهم أن نتأمل فيها ونعرف معانيها. وهى قوله تعالى «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا»، وقد ذكرت الآية الكريمة فى القرآن مرتين، مرة فى سورة النحل «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»، ومرة أخرى فى سورة إبراهيم «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا». فمَهما تحدّثنا عن نعم الله تعالى فهِى لا تُعدّ ولا تُحصى، لذلك يجب عَلينا شكره على النعم التى أنعم بها علينا، وأن نتقرب له سبحانه بعبادَته، فإنّ نعم الله كثيرة وعظيمة. وقد أنعَم علينا بالعقل لندرك نعم الله التى منَّ بها علينا، وأنعم علينا بالبصر والسمع والنطق، وخلقنا على أحسن هيئة «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» ولكن الإنسان قليلًا ما يشكر الله على نعمه، ويجب أن ندرك نحن المسلمين، أن استمرار النعم علينا متعلق برضا الله، فكلما رضى عنا، أنعم علينا بمزيد من نعمه. «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ».
وقبل أن نشرح معنى الآيات علينا أن نعرف لماذا قال الله تعالى «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ» ولم يقل نعم الله؟ على الرغم أن الله تعالى أعطانا نعمًا كثيرة وليست نعمة واحدة، أتعرفون لماذا؟ لأن النعمة الواحدة التى أنعم الله بها علينا، تحتوى على نعم كثيرة، سبحان الله ما أكرمه وما أعظمه. هكذا يقول كثير من العلماء. النعمة الواحدة نعم كثيرة.. ونأخذ هنا - على سبيل المثال لا الحصر - لنتأمل فى نعمة اليد، نستفيد منها فى أعمال كثيرة وليس فى عمل واحد، نأكل بها، ونلبس بها، ونكتب بها، ونسبح بها، ونغسل بها، ونمسك بها ونطبخ بها، ونشغل بها الكُمبيوتر وغيرها من الأعمال.
ومثال آخر، وهو نعمة العين: نستفيد منها فى أعمال كثيرة منها النظر إلى مخلوقات الله بقصد التفكر فيها والتأمل فى عجائب صنع الله، القراءة فى كتاب الله تعالى، القراءة فى العلم النافع، البكاء من خشية الله تعالى، ومن حسنات العين: الحراسة فى سبيل الله وحماية بلاد المسلمين من الأعداء.. سبحان الله تعالى، هكذا تأملنا فى نعمتى اليد والعين، ووجدناهما تضمان مجموعة عظيمة لا تعد ولا تحصى من النعم بعضها ذكرناها وبعضها لم نذكرها. فما بالكم بالأطراف الأخرى وقيمتها فى الحياة. نعم إن الصحة تاج على رءوس الأصحّاء لا يدرك قيمتها الإنسان إلا إذا مرض. وهنا عرفنا لماذا قال الله تعالى نعمة الله ولم يقل نعم.. ونذكر فى هذا المقال تفسير معنى قوله «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»، ففى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»، ثم نبههم الله تعالى على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم، فقال: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» أى: يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازى على اليسير.. وقال ابن جرير: يقول: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» لما كان منكم من تقصير فى شكر بعض ذلك، إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، (رَّحِيمٌ ) بكم أن يعذبكم، (أى): بعد الإنابة والتوبة.
وفى تفسير الطبرى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»، «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا» لا تطيقوا أداء شكرها، «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» يقول جلّ ثناؤه: إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير فى شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم أن يعذبكم عليه بعد الإنابة إليه والتوبة. وفى تفسير السعدى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»، وكما أنه ليس له مشارك إذ أنشأكم وأنشأ غيركم، فلا تجعلوا له أندادًا فى عبادته، بل أخلصوا له الدين، «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ» عددًا مجردًا عن الشكر «لَا تُحْصُوهَا»، فضلًا عن كونكم تشكرونها، فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات، من جميع أصناف النعم مما يعرف العباد، ومما لا يعرفون، وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن تحصى، «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ». يرضى منكم باليسير من الشكر مع إنعامه الكثير.
وفى تفسير الجلالين، فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا» تضبطوها، فضلًا أن تطيقوا شكرها «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»، حيث ينعم عليكم مع تقصيركم وعصيانكم. وفى كتاب الميزان فى تفسير القرآن، فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»، وقوله «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» إلى آخر الآية، إشارة إلى كثرة النعم الإِلهية كثرة خارجة عن حيطة الإِحصاء، وبالحقيقة ما من شىء إلا وهو نعمة إذا قيس إلى النظام الكلى، وإن كان ربما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر.
وقد علل سبحانه ذلك بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»، وهو من ألطف التعليل وأدقه، فأفاد سبحانه أن خروج النعمة عن حد الإِحصاء، إنما هو من بركات اتصافه تعالى بصفتى المغفرة والرحمة فإنه بمغفرته- والمغفرة هى الستر - يستر ما فى الأشياء من وبال النقص وشوهة القصور، وبرحمته - والرحمة، إتمام النقص ورفع الحاجة - يظهر فيها الخير والكمال ويحلّيها بالجمال، فيبسط المغفرة والرحمة على الأشياء، يكون كل شىء نافعًا فى غيره خيرًا مطلوبًا عنده، فيصير نعمة بالنسبة إليه، فالأشياء بعضها نعمة لبعض، فللنعمة الإِلهية من السعة والعرض ما لمغفرته ورحمته من ذلك: فإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، فافهم ذلك. وللحديث صلة وبالله التوفيق.