رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

.. ومازالوا يحاولون اغتيال ناصر!


ظهر أنتوني إيدن في التليفزيون البريطاني، ممسكًا بورقة سوداء، وقال لمشاهديه: «انظروا.. هذا هو سجل عبدالناصر». وبالتزامن، كانت المخابرات البريطانية تقوم بتنفيذ واحدة من مخططات اغتيال جمال عبدالناصر معنويًا، التي بدأت مع قيام ثورة يوليو، ولم تتوقف إلى الآن، أي بعد مرور نصف قرن تقريبًا على وفاته!.

في «١٥ يناير» حلت الذكرى المئوية لميلاد جمال عبدالناصر. وفي «١٤ يناير» مرّت ٤١ سنة على رحيل «إيدن» حاملًا لقب أسوأ رئيس وزراء في التاريخ، بهزيمته في حرب السويس، العدوان الثلاثي، وخدعوك فقالوا إن تلك الحرب أو ذلك العدوان كان ردًا على قرار تأميم قناة السويس، في ٢٦ يوليو ١٩٥٦، بينما تقول الوقائع والوثائق إن بريطانيا خططت لإعادة احتلال مصر قبل ذلك بسنوات، وإنها قبل قرار التأميم بشهور حاولت اغتيال عبدالناصر جسديًا، بعد تصفيته معنويًا، لتصفية أو تشويه معنى الاستقلال الوطني بكل أبعاده السياسية والاقتصادية.

تقول الوقائع والوثائق إن السلطات المصرية رصدت سنة ١٩٥٣ وجود نشاط داخل الكنيسة الإنجيلية، لا علاقة له بوظيفة الكنيسة ورسالتها الدينية. وأن النقيب محمد شكري حافظ من المباحث العامة (انتقل بعد ذلك إلى المخابرات العامة، وصدرت مذكراته بعنوان: عبدالناصر والمخابرات البريطانية)، تمكن من الوصول إلى مستندات ووثائق في خزانة الكنيسة تتضمن رسائل متبادلة مع جهاز المخابرات البريطاني (MI6) ومحاضر اجتماعات عقدها تريفور إيفانز، المستشار الشرقي بالسفارة البريطانية في القاهرة، مع بعض قيادات جماعة الإخوان (المرشد العام حسن الهضيبي، منير الدلة وصالح أبورقيق) في منزل بالمعادي يملكه الدكتور محمد سالم، أحد قيادات الجماعة والموظف في شركة النقل والهندسة!.

في أحد محاضر الاجتماعات، طلب «إيفانز» من قيادات الإخوان إقناع اللواء محمد نجيب بتهيئة الرأي العام لإحكام سيطرته على السلطة، وفي ذات الوقت اتفق معهم على التحريض ضد الثورة. وفي خزانة الكنيسة وجدوا أيضًا وثيقة باسم «روديو» عبارة عن خطة عسكرية بريطانية لإعادة احتلال الإسكندرية والدلتا إذا ما دعت الضرورة. ولاحظ أن مفاوضات الجلاء كانت تُجري في ذلك الوقت بشأن إخلاء قناة السويس من القوات البريطانية، ما يعني أن بريطانيا لم تكن تريد التسليم بالواقع الجديد. ولاحظ أيضًا، أن جماعة الإخوان لم تتوقف عن العمالة والتآمر، منذ قام بتأسيسها رجل المخابرات البريطانية «فريا ستارك»، سنة ١٩٢٨، بينما لم يكن المدعو حسن البنا، حرقه الله، غير مجرد ستار.

بين محاولات الاغتيال المستمرة، قام الإسرائيليون، مؤخرًا، بنشر «هلاوس» زعموا أنها وثائق «سرية للغاية» تتضمن معلومات عن حياة عبدالناصر الخاصة وعلاقته بزوجته وأولاده، يعود تاريخها إلى ١٣ ديسمبر ١٩٥٩، وموجهة من شعبة الشرق الأوسط في الخارجية الإسرائيلية إلى المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان). وكان مصدر تلك المعلومات سيدة يهودية زعمت أنها كانت تقيم بجوار منزل عبدالناصر، قبل هجرتها. ويكفي لإثبات أن الإسرائيليين «بهائم» وفاشلون، حتى في الكذب، أن تلك السيدة زعمت أن ابن عبدالناصر الأكبر اسمه «عمر»، في حين لا يخفى على أي عاقل أو معتوه أن غالبية مواليد العالم العربي، في ستينيات القرن الماضي وما تلاها، حملوا اسم «خالد» على اسم الابن الأكبر لعبدالناصر الذي كانوا ينادونه بـ«أبوخالد». وطبعًا لا تحتاج إلى معرفة سبب احتفاء صحف الإخوان ومركوبيهم بتلك «الهلاوس» الإسرائيلية.

حملات المخابرات الإسرائيلية، البريطانية، والأمريكية، لم تتوقف منذ تم إرسال «نيكولاس إليوت» مندوبًا للمخابرات البريطانية إلى تل أبيب، لتنفيذ جانب من مخططات لجنة «لجنة دووس باركر» التي شكلتها الخارجية البريطانية لاستخدام الوسائل غير العسكرية في إسقاط عبدالناصر. بـ«الدعاية السوداء» عبر اختراق وسائل الإعلام الإقليمية وتكليف هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، بتبني سياسة إعلامية أشد عدوانية، واستخدمت هذه اللجنة، بمساعدة فروع المخابرات البريطانية عددًا من الصحف ومختلف وسائلها في المنطقة، بينها وكالة الأنباء العربية التي كانت تمولها المخابرات البريطانية، كما أطلقوا من «عدن» إذاعة «صوت مصر الحرة» بدأت تبث برامجها في ٢٨ يوليو ١٩٥٦. وبالمناسبة كان لدى الأمريكيين لجنة اختاروا لها اسم «أوميجا»، تم تشكيلها للهدف ذاته: تشويه عبدالناصر أو اغتياله معنويًا.

الاغتيال المعنوي، كما أشرنا، كان تمهيدًا للاغتيال الجسدي، وبين محاولات الاغتيال العديدة، استوقفتني تلك المحاولة التي تمت فيها الاستعانة بالصحفي البريطاني «جيمس موسمان» مراسل الـ«ديلي تليجراف» في القاهرة الذي كان يعمل قبلها في هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، وكانت الخطة التي اتفق عليها مع الميجور فرانك كوين رئيس فرع «Q» في المخابرات البريطانية، هي أن يقوم بتجنيد طبيب عبدالناصر لكي يضع له السم في القهوة مقابل عشرين ألف جنيه إسترليني. ولسوء حظهم، وحسن حظنا، كان الطبيب الذي تسلم السم والعشرين ألف استرليني أحد ضباط المخابرات المصرية. وقبل أن يخرج «كرومبو» اللي جواك وتشكك في تلك الواقعة، ألفت نظرك إلى أنها عهدة الصحفي البريطاني ستيفن دوريل، الذي حكاها في كتاب عنوانه «مغامرة من داخل العالم السري للمخابرات البريطانية في الشرق الأوسط».

الآن، يحتفل العالم العربي، من شرقه لغربه بمئوية زعيم لا يزال يجسد أحلام مئات الملايين بعد مرور ٧١ سنة على وفاته، بينما مرّت ٤١ سنة على وفاة «إيدن»، الذي لا يتذكر البريطانيون غير حرب السويس، التي خرج فيها من مصر، مطأطأ الرأس، ومن السلطة، مقالًا أو مطرودًا، ليدخل مزبلة التاريخ، بعد أن دق المسمار الأخير في نعش زعامة بريطانيا للعالم.