رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أول مقال كتبه هيكل عن عبدالناصر: السكوت الذي ترقد تحته العاصفة

هيكل
هيكل

سمعت عنه قبل أن ألقاه.. كانوا يتحدثون عنه فى الفالوجا المحصورة، كما يتحدثون عن الخرافات والجن العمالقة.. كان جريئًا إلى أبعد حدود الجرأة، وفى الوقت نفسه كان هادئًا إلى أبعد حدود الهدوء.. وكان هذا المزيج من الجرأة والهدوء شيئًا عجيبًا مثيرًا.. وكان كل زملائه يحبونه.. واشتهر بينهم باسم تدليل «يقصد جيمى، بينما كانوا يسمون عبدالحكيم روبنسون كروزو» كانوا يطلقونه عليه وينطقونه بأنفة وإعزاز حينما يتكلمون عنه وهم جالسون فى الخنادق وفى خط النار.
كان كثيرون فى الفالوجا يحبون الاستماع إليه، فقد كان يتكلم لغة جديدة ويثير فيمن حوله مشاعر جديدة قوية.. وعندما كانت المعارك تهدأ يهرع إليه نفر من الضباط حيث يكون ثم تدور أحاديث تتجه كلها إلى الوطن البعيد، حيث يفصل بينه وبينهم عدو يحاصر مواقعهم من كل ناحية.. وكان تخليص وطنهم أهم عندهم من تخليص أنفسهم من الحصار الذى كانوا فيه.
عاد من الفالوجا هادئًا ساكنًا، وفى الوقت نفسه هائجًا ثائرًا.. وكتب البوليس السياسى عنه تقارير وصفته بأنه من الإخوان المسلمين، واستدعاه رئيس الوزراء القائم بالحكم وقتئذ «يقصد إبراهيم عبدالهادى» لمقابلته وسأله: هل أنت من الإخوان؟.. وكانت تهمة الالتصاق بالإخوان المسلمين فى ذلك الوقت تهمة مخيفة، وكانت مفاجأة لرئيس الوزراء، وصمت لحظة ثم قال لقد أعجبتنى شجاعتك ولست أطلب منك تعهدًا لى بالاشتراك فى أعمال عنيفة.
وحين خرج بعد انتهاء المقابلة وعرف بعض زملائه ما حدث، أقبلوا عليه يسألونه: ولكنك لست منتميًا إلى جماعة الإخوان المسلمين فلماذا قلت إنك منهم؟.. قال بهدوء: لقد كان سيتصور أنى أتهرب وأجبن إذا قلت إنى لست منهم.
الذين اتصلوا بعمله يقولون إنه جندى محترف.. الجندية فى دمه وفى أعصابه وفى عقله.. وسيشهدون على ذلك بفترة قضاها فى كلية أركان الحرب وكان العقل المدبر للكلية.. ومن خريجى هذه الكلية جاء معظم ضباط حركة القوات المسلحة.
ثم التقيت به لأول مرة.. وكان اللقاء فى بيت اللواء محمد نجيب قبل أربعة أيام من حركة القوات المسلحة.. وكان يبدو أبعد بكثير ما سمعت عنه.. كان يرتدى قميصًا أبيض وبنطلونًا رمادى اللون.. وبدا كأنه شاب عادى لولا الشيب الكثير الذى ملأ شعر رأسه.. وكنت قبل أن يدخل هو إلى بيت اللواء محمد نجيب جالسًا مع اللواء نتحدث عن موضوع الساعة فى ذلك الوقت وهو حل مجلس إدارة نادى الضباط.. وحين دخل هو واصلنا الحديث فى نفس الموضوع وكان هو ساكنا لا يتكلم.
وقلت له ماذا.. هل ستتركون المسألة هذه المرة تمضى؟.. وقال فى هدوء: ماذا نفعل؟.. قلت: افعلوا أى شىء.. ولكن لا يمكن أن تمضى المسألة هكذا.. وقال فى بساطة: أهذا رأيك؟.. قلت فى عصبية: وهل لك أنت رأى سواه؟.
ثم التقيت به للمرة الثانية فى الساعة الرابعة فى فجر ٢٣ يوليو.. كانت الحركة قد فرغت منذ أقل من دقائق.. وكانت رئاسة الجيش تعيش فى جو غريب.. حركات القوات حولها من كل ناحية.. والدبابات والسيارات المدرعة ومدافع الميدان والمدافع الرشاشة.. واقترب منى فى صوت رقيق متزن يقول: ما هو رأيك.. هل يكفى هذا؟ ثم رأيته كثيرًا بعد ذلك.. رأيته يلزم مكتبه سبعة أيام متواصلة. وإذا غادره فإلى المكتب المجاور.. حيث يشهد مؤتمرًا.. ورأيته يتكلم فى كل الموضوعات ويقترح حلولًا لكل المشكلات.. وبعضها بعيد عن العسكرية بعد السماء عن الأرض.. ورأيته يجلس على ذوى القوة دون أن يحس بها، فإن رأسه لم يدر ولم يركبه الغرور.. لقد كان فى هذا كله، كما وصفوه أيام الفالوجا، مزيجًا من الجرأة المتناهية والهدوء الوديع.