رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام عبدالناصر الخالدة من حريق القاهرة إلى التنحي

جريدة الدستور

لم ينم ليلة تأميم قناة السويس.. وظل طوال الليل يتحدث بالتليفون
حين أعلن قرار التنحى قال لى عبدالحميد ابنى: «أحسن يا ماما علشان بابا يستريح» فقلت له: «أبوك عظيم»


رصدت تحية عبدالناصر تفاصيل أيام عبدالناصر الخالدة، بالتفاصيل الدقيقة التى عاشتها هى بالطبع، فهى كانت ترى الصورة من بعيد.. ورغم أن عصر عبدالناصر كان عصرا ثائرا كله، فإن هناك أياما فى حياته كان لها مذاقها الخاص، إنها الأيام التى صنعته وصاغته وخلدته، هنا أترك تحية تحكى عن أيامها الخالدة مع جمال دون أدنى تدخل.

اليوم ٢٦ يناير سنة ١٩٥٢ يوم حريق القاهرة، رجع جمال من الشغل وأخبرنى عن الحريق، وسمعت فى الإذاعة التفاصيل، وبعد تناولنا الغداء رأيته يخرج فقلت: الحريق ما زال مشتعلا، فقال لا تخافى سأرى ماذا حصل وأرجع، وظل فى الخارج حتى الليل ولم يحضر، وقفت فى شباك حجرة المكتب، وكان يطل على حديقة منزل الجيران، وأرى من الناحية الأخرى بوابة قصر القبة من بعيد والعلم مرفوعا فوقه، فوقفت أفكر وأنتظر جمال وكان الطقس باردا، لم يسهر لساعة متأخرة وحضر وحكى لى عما شاهده فى البلد، وأنه تجول فى الشوارع التى حصل فيها الحريق.
فى اليوم التالى نشر فى الجرائد وأذيع فى الراديو عن منع التجول بعد السادسة مساء، وأن من يمشى فى الشارع يضرب بالرصاص رجع جمال من الشغل، وبعد الغداء خرج بالملابس العادية، وقبل الساعة السادسة مساء وقفت فى الفراندة التى فى حجرة الصالون والتى أرى منها شارع مصر الجديدة وميدان المستشفى العسكرى، فى ذلك الوقت كنت واقفة أرى الجيران والساكنين فى الشارع كل واحد راجع لمنزله إما بمفرده أو مع زوجته أو عائلته، والعربات تمر فى الشارع وقت المغرب أى قبل السادسة، وكنت منتظرة حضور جمال، وقلت فى نفسى إنه سيحضر اليوم مبكرا، وسيظل فى البيت وسوف لا يزورنا أحد، وسرتنى الفكرة.
قبل الساسة بقليل لم يكن أحد فى الشارع والدنيا سكون وجاءت الساعة السادسة ولم يحضر جمال، والسابعة والثامنة والتاسعة ولم يحضر، وكنت قد قفلت باب الفراندة لبرودة الجو ووقفت خلف الزجاج أنظر للشارع علنى أرى العربية، وأنا فى شدة القلق أقول فى نفسى: كل الناس روحت ولا أسمع صوتا فى الشارع وجمال لم يحضر.
وفى الساعة العاشرة والنصف وصل جمال، حيانى وقال لى: إنى رأيت نور حجرة الصالون، من عندك؟.. قلت: لا أحد كنت أنتظرك وخايفة عليك، وكان الاضطراب ظاهرا على وجهى، فقال: لا تخافى، وهو يضحك، أنا كنت عند ضابط يسكن قريب فى الزيتون، ورجعت من شوارع داخلية ضيقة ولفيت وحضرت، ولم أقابل أو يرنى أحد.
وفى اليوم التالى نشرت الجرائد عن الذين يسمح لهم بالتجول ومنهم الشرطة والضباط، لم يتغير الحال فى بيتنا، الذى تغير هو الملابس، وأصبح جمال يخرج بالملابس الرسمية، وكل الذين يحضرون يلبسون الملابس الرسمية طوال مدة منع التجول، وفى يوم، والوقت قبل الظهر وقبل رجوع جمال من الشغل، حضر ضابط وطلب مقابلتى، وأعطانى دفتر دوسيهات كبيرا لونه بنى، ففتحته فوجدت أوراقا فوق بعضها، قرأت واحدة والتى تليها، وجدت نفس الكلام المكتوب، وفهمت أنها منشورات تهاجم نظام الحكم فى البلد، وكنت أعرف خطورة المنشورات، وضعت الدوسيه فوق الدولاب الذى لا أفتحه فى حجرة السفرة وقلت فى نفسى: هذه هى المصيبة الكبرى.. وجود هذه المنشورات عندنا، لم أقلق إلا لدقائق فقط وانشغلت ونسيت.

فى الساعة العاشرة مساء يوم الثورة حضر جمال، وبعد أن هنأته من كل قلبى قال: سأبقى ساعتين فقط وأرجع إلى القيادة، وحلق ذقنه وأخذ حمامًا واستبدل ملابسه وجلس معنا فى حجرة المكتب، أخبرته عن أخى وحضوره فى الصباح وسؤاله عنه وقلقه عليه.
فقال لى: إنه سيدهش غدا عندما يرانى فى الجرائد ويرى صورا لى فى عربة جيب، وقال إنه لف الشوارع الرئيسية فى البلد مع اللواء محمد نجيب، وكانت أول مرة أسمع اسمه، وإن البلد كلها خرجت لتحيتهم وكلها حماس، قلت له: إنى طوال النهار أسمع الطائرات تمر من فوق البيت، وحكيت له عن سهرى طوال الليل حتى الصباح، وقلقى عند سماعى طلقات الرصاص.
قال جمال: لقد اقتحمنا القيادة العامة بفرقة من الجيش ومعى عبدالحكيم عامر، ولم يصب إلا اثنان من الجنود، وأحد حرس القيادة وواحد من الفرقة التى معنا، واستسلم كل الموجودين فى القيادة وكانوا مجتمعين، وأخذتهم واحدا واحدا وأدخلتهم فى مبنى المدرسة الثانوية العسكرية، ثم قال: وسلمتهم للسجان حمدى عاشور وضحك، وبعد أن تم كل شىء خرجت لأقفل الشارع وأرجع العربيات قبل مرور الجيش، وكنت واقفا على ناصية الشارع وركنت العربية الأوستن بالقرب منى.
وأضاف وهو يضحك: لماذا تقلقين وأنا قريب منك على ناصية الشارع، والعربية الأوستن بالقرب منى فى ميدان المستشفى العسكرى، فقلت: إنك كنت قريبا ولكن بعيد جدا.. وكان يضحك.

الوقت صيف سنة ١٩٥٤، ذهبنا إلى الإسكندرية واستأجرنا دورا فى فيلا على الكورنيش، سكنا فى الدور الأول والثانى كانت تسكنه عائلة، أى كنا نشترك مع جيران، كان جمال يحضر كل أسبوع أو أسبوعين، ويمضى معنا يوما واحدا ويرجع إلى القاهرة فى منشية البكرى، وكان وقت الحج، وسافر جمال عبدالناصر لأداء فريضة الحج.
فى صيف سنة ١٩٥٤ رجعت من الإسكندرية لأكون فى استقباله فى القاهرة ومكثت بضعة أيام ثم عدت إلى الإسكندرية، وبقينا حتى شهر سبتمبر.
فى شهر أكتوبر فى آخره كان جمال عبدالناصر سيلقى خطابا فى الإسكندرية فى ميدان المنشية، غادر البيت وقت الغروب، وقبل خروجه كان يضع دائما فى جيبه مصحفا صغيرا فى غلاف من المعدن الأبيض، لم يجده وقت خروجه، وكان مستعجلا إذ يسافر بالقطار، فأخذت أبحث عن المصحف وأنا مسرعة ولم أجده، فأحضرت مصحفا آخر بغلاف من الكرتون، فأخذه جمال ووضعه فى جيبه، وعند خروجه وجدت المصحف ذا الغلاف المعدن الذى اعتاد أن يخرج به، فجريت مسرعة وأعطيته له، وكان بالقرب من الباب فأخذه ووضعه فى جيبه وخرج بالمصحفين، وكان حادث المنشية بالإسكندرية، أثناء إلقائه الخطاب وإطلاق ثمانى رصاصات عليه ونجاته، فظل جمال عبدالناصر يخرج بهذين المصحفين حتى يوم وفاته فى ٢٨ سبتمبر ١٩٦٠.

فى صيف ١٩٥٦ ذهبنا إلى الإسكندرية فى نفس البيت الذى كنا فيه فى الصيف السابق، وقت الاحتفال بأعياد الثورة، وقبل ٢٣ يوليو رجعت والأولاد للقاهرة، كما هى عادتنا، وفى ٢٥ يوليو ذهبت إلى الإسكندرية مرة أخرى، وفى يوم ٢٦ يوليو فى المساء حضر الرئيس للإسكندرية لإلقاء الخطاب فى ميدان المنشية، وبعد أن صافحنى قال إن عنده اجتماعا مع الوزراء فى الصالون فى البيت، وسيحضرون بعد قليل، وكنت سأذهب لسماع الخطاب فى عمارة بجوار المبنى الذى سيكون فيه الرئيس فى ميدان المنشية، خرجت، وهو لا يزال مجتمعا مع الوزراء فى الدور الأول فى الصالون، وذهبت قبل وصوله وجلست فى شرفة لأراه وأسمعه وهو يلقى الخطاب.
حضر جمال وألقى خطابه التاريخى، بعد رجوعى إلى البيت حضر الرئيس وجاء كثير من الزورا، وامتلأ الدور الأول بهم، ثم صعد للدور الثانى، ولم ينم وظل طوال الليل يتحدث بالتليفون، وقال لى: لم يكن أحد من الوزراء يعلم بتأميم القناة غير اثنين، والباقى عند سماعه الخبر ونحن مجتمعون فى الصالون، وحدثنى عن كلمة السر ديليسبس – وقد قلتها عدة مرات – كنت أقول فى نفسى لما يتحدث عن ديليسبس؟ وكانت المفاجأة عند سماعى بتأميم قناة السويس، وسمعته بصوته ونبرته الرنانة، وهو يقول قرار رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية.. ثم أمضى الرئيس فى الإسكندرية ليلتين فى اتصالات وعمل متواصل ثم رجع إلى القاهرة،

فى ٣١ أكتوبر سنة ١٩٥٦ حصل الاعتداء الإنجليزى الفرنساوى وكان الرئيس فى البيت، طلب منى أن أنزل إلى الدور الأول مع الأولاد وصعد هو إلى سطح البيت ليرى الطائرات، ثم دخل مكتبه وظل فيه، بقيت يومين فى الدور الأول وهو يخرج ويرجع فى ساعة متأخرة من الليل، ويصعد لحجرة النوم فى الدور الثانى، ويطلب منى أن أبقى والأولاد فى الدور الأول، وجهز ترتيبا لنومنا والغارات مستمرة، حتى سقطت قنبلة قريبة من بيتنا وتناثرت شظاياها فى الحديقة، وكان اليوم الثالث للاعتداء وكل الساكنين فى المنطقة غادروها.
قبل خروج الرئيس فى الصباح وكنت واقفة معه فى الحجرة، قال لى بالحرف: أنا ورايا البلد وأولادنا وأنت معاك أولادك، وسيحضر صلاح الشاهد ويوصلكم لبيت فى مكان بعيد عن الضرب وقت الظهر، وكان لا يعرف المكان الذى سنذهب إليه فى أى جهة أو شارع وحيانى وخرج.
ذهبنا لبيت فى الزمالك صغير مكون من دور وبدروم وفى شارع ضيق، وكنت لم أر بيتا فى حى الزمالك بهذا المنظر، فهو قديم والفرش قديم وغريب، وله حديقة صغيرة جرداء ليس بها زرع، سألت صلاح الشاهد لمن كان هذا البيت؟ قال إن صاحبته أميرة ولم تسكن فيه إذ هى تعيش فى الخارج.
طلبت أكلم الرئيس فى التليفون وكلمنى وسألنى عن الأولاد، وفى اليوم التالى طلبته أيضا فى التليفون وتحدثت معه، وبعد ذلك طلبت أكلمه فرد على زكريا محيى الدين، وقال إن الرئيس غير موجود فى مجلس الثورة، وذهب فى مهمة وسيكلمك عندما يرجع إن شاء الله.
وطبعا انشغلت جدا حتى طلبته ورد على بنفسه، وعلمت بعد ذلك أنه كان فى طريقه لبورسعيد، طلب الرئيس مكالمتى بالتليفون وكان الوقت الساعة الثامنة صباحا والقتال أوقف قبلها بساعات، وقال يمكنك الآن أن ترجعى منشية البكرى بعد أن مكثت خمسة أيام فى منزل الزمالك.
وجدت حى منشية البكرى فاضى ولم يرجع أحد لمسكنه، والرئيس ظل فى مجلس الثورة، وكنت أكلمه بالتليفون كل يوم، وعند انتهاء المكالمة كما هى عادته يقول لى: عاوزة حاجة؟ فأشكره، وبعد أكثر من أسبوع سألته: متى ستحضر إلى البيت؟ فقال بعد خروج الإنجليز، وفى مرة كنت أتحدث معه بالتليفون وكعادته قال: عاوزة حاجة؟ فقلت: عاوزة الإنجليز يخرجوا وضحكنا.

الوقت أول يونيو ١٩٦٧، كان الاعتداء الإسرائيلى على سوريا وكان الرئيس يجلس معنا فى الصباح، قال: إن اليهود سيعتدون على مصر، وحدد بالضبط يوم الإثنين المقبل، وحصل الاعتداء الإسرائيلى فى نفس اليوم الذى حدده الرئيس، ٥ يونيو ١٩٦٧ فى الصباح.
فى يوم ٩ يونيو ألقى الرئيس خطابا، وكنت جالسة فى الصالة كعادتى وقت إلقائه خطاباته أمام التليفزيون ومعى أولادنا، وسمعته وهو يعلن تنحيه عن الحكم، ورأيت الحزن على وجهه وهو يتكلم، ولم أكن أعرف أو عندى فكرة أبدا عن التنحى، وكان يجلس معى عبدالحميد وعبدالحكيم أصغر أبنائى – وكان فى الثانية عشرة – فرأيت على وجهيهما الحزن، ودخل ابنى خالد الصالة أيضا.
قلت لهم: إن بابا عظيم وهو الآن أعظم فلا تزعلوا، رد عبدالحميد وقال بالحرف: أحسن يا ماما علشان بابا يستريح، وقاموا يمشون فى البيت كالعادة.
لم تمض دقائق حتى علا صوت الجماهير حول البيت، وحضر الرئيس وصعد للدور الثانى ودخل حجرته وخلع بدلته ولبس البيجاما ورقد على السرير.
انسد الشارع وتعذر الدخول للبيت، ومنهم من لم يستطع الوصول للشارع الذى فيه بيتنا، حضر معظم المسئولين، ونواب الرئيس ووزراء وضباط وامتلأ الدور لأول، ومنهم من كان يبكى بصوت ويصعد السلالم ويطلب الدخول للرئيس فى حجرته، ورأيت بعضهم جلس على السلالم ينتحب، وكنت أسمع صوت بكائهم، فكنت أدخل لجمال فى الحجرة وأخبره عمن يطلب مقابلته.
سمح لعدد قليل بالدخول إلى حجرته، ثلاثة أو أربعة وأراهم يخرجون من عنده وهم ينتحبون، ثم قام وارتدى البدلة ونزل للدور الأول ومكث معهم وقتا قصيرا، وصعد إلى حجرته مرة أخرى وخلع البدلة وارتدى البيجاما ورقد فى السرير وأخذ مهدئا، وقال: سأنام، وكان محمد علوبة الخاص بخدمته قد صعد وخبط على الباب معه مذكرة وأوراق، فقال لى الرئيس: قولى له لا يحضر أى أوراق وينصرف، وبقيت بجانبه وأصوات الجماهير تزداد حول البيت.
نمت حتى الصباح وقمت كالعادة، وأصوات الجماهير والهتافات لم تنقطع وتعلو بشكل لا أقدر أن أصفه، وخرجت من الحجرة وظل هو راقدا على السرير، وكنت عندما أخرج من الحجرة فى الصباح، أخرج بهدوء ولا أدخلها حتى أسمع الجرس ليدخل الخاص بخدمته، وبعد وقت أدخل له ونتبادل تحية الصباح، ثم أتركه ويكون قد بدأ فى القراءة والاتصالات حتى يطلب الإفطار ويطلبنى لأجلس معه.
فى صيف ١٩٦٧ بقينا فى القاهرة حتى شهر أغسطس، فقال لى الرئيس: اذهبى إلى الإسكندرية مع الأولاد، وظل هو فى القاهرة، وفى شهر سبتمبر حضر الرئيس للإسكندرية بعد أن أحبط مؤامرة دبر لها المشير عبدالحكيم عامر للرجوع لمنصبه بالقوة، بعد تغيير الرئيس القيادات فى القوات المسلحة.
أمضى جمال أياما قليلة معنا وفوجئ بانتحار المشير، تلقى النبأ بحزن عميق ورجع للقاهرة، ورجعت مع الأولاد فى اليوم التالى، وجدت الرئيس حزينا وأشد ما أحزنه أنه عبدالحكيم عامر الصديق، وظل مدة على وجهه الحزن.

لبث الرئيس فى الهيلتون وكنت أتتبع الأخبار فى الجرائد والإذاعة والتليفزيون، وكانت نشرة الأخبار الساعة التاسعة مساء تقرأها المذيعة سميرة الكيلانى، وقالت: لقد تم الوفاق واختتم المؤتمر أعماله، وغادر الضيوف من الملوك والرؤساء القاهرة، وكان فى توديعهم الرئيس وسيغادر الباقى غدا، فهللت من الفرحة وصفقت بيدى، وكانت ابنتى منى حضرت فى هذه اللحظة، وبعد انتهاء نشرة الأخبار قالت لى: نشاهد يا ماما فيلمًا فى السينما، ونزلنا، وفى الساعة العاشرة والنصف جاء لى السفرجى يقول: لقد حضر سيادة الرئيس، فقلت لمنى: فلتكملى أنت الفيلم وصعدت وتركتها.
دخلت الحجرة، وجدت الرئيس راقدا على السرير، صافحته بحرارة وقلت له: الحمد لله لقد سمعت نشرة الأخبار وفرحت جدا، وهللت، فقال: الحمد لله، وكان قد طلب العشاء، وسألنى: هل تناولت عشاءك؟ فقلت: نعم.. وجلست معه، ولم يأكل إلا زبادى ورجع السرير.
لم تستكمل منى مشاهدة الفيلم، وطلعت ودخلت حجرة والدها وصافحته، وجلست معه على طرف السرير، وحضر خالد أيضا وصافحه وجلسا فى الحجرة قليلا يتحدثان مع والدهما.
ظل الرئيس يتحدث فى التليفون حتى الساعة الثانية عشرة، ثم قال: سأنام مبكرا، وغدا سأذهب فى الصباح لتوديع الملك فيصل وأمير الكويت، وأطفأ النور.
فى الصباح استيقظ الرئيس قبل الثامنة، وحضر الدكتور الخاص، وكنت قد قمت وخرجت من الحجرة، ودخلت حجرتى، وكنت أستعد للدخول للرئيس فى حجرته لأتناول معه الإفطار، فدخل لى فى الحجرة لتحيتى قبل خروجه، وقال: سأذهب للمطار، ووجدت الإفطار قد جهز فى حجرته، ولم يتناول شيئا، وعلمت أنه تناول فاكهة فقط.
رجع الرئيس فى الساعة الثانية عشرة، وحضر الدكتور الخاص ودخل له، وكنت سأدخل للرئيس، ووجدت الدكتور يجرى له رسم قلب، فرجعت ولم أدخل له فى الحجرة، ثم بعد ذلك خرج الرئيس مرة ثانية لتوديع أمير الكويت.
رجع الرئيس من المطار فى الساعة الثالثة بعد الظهر، وعند خروجى من حجرتى وجدت ابنتى هدى تستعد لتذهب إلى بيتها، بعد أن انتهت من الشغل، وكانت تجلس فى مكتب والدها فى الدور الثانى، تعمل سكرتيرة له منذ عام، وكان الرئيس بعد مضى بضعة شهور من شغلها معه، قال لى: إن هدى الآن تدربت على العمل معى وتعلمت وبتريحنى، وكان سعيدا بها.
قالت لى هدى بصوت خافت، وكنت مشيت حتى باب حجرة النوم، إن بابا تعبان وسينام، فرآنى، وقال: تعالى يا تحية، فدخلت الحجرة، وأشار لى بيده وهو راقد على السرير أن أجلس، فجلست على طرف السرير فسألنى: هل تناولت الغداء يا تحية. فقلت: نعم تناولته مع الأولاد، فقال لى أنا مش هتغدى».
أشار لى بيده أن أبقى جالسة، فبقيت حوالى عشر دقائق وهو راقد لا يتكلم، وحضر الدكتور الصاوى حبيب، فقال له الرئيس: ادخل يا صاوى، فدخل، وقمت كعادتى عند دخول الأطباء له فى الحجرة وخرجت إلى المكتب، فقال الدكتور: نريد عصيرا، فذهبت وأحضرت عصير برتقال وليمون، جهزته بنفسى بسرعة وحملتهما ودخلت فى الحجرة، وقلت: هذا برتقال محفوظ وليمون طازج، فقال: آخذ برتقال، وشرب الكوب وأنا واقفة وقال لى: متشكر.
خرجت من الحجرة وجلست فى حجرة المكتب، وبعد دقائق حضر طبيب اختصاصى، منصور فايز، فقلت له بالحرف: إنت جيت يا دكتور ليه دلوقتى؟ أنا لما باشوفك بأعرف إن الرئيس تعبان وبأكون مشغولة، فرد: أنا معتاد أن أحضر كل أسبوع يوم الإثنين، واليوم الإثنين، ودخل للرئيس.
بقيت جالسة فى حجرة المكتب وسمعت الرئيس يتحدث، وسمعت الراديو، نشرة الأخبار فى إذاعة لندن، قالت لى منى: بابا بخير والحمد لله، تعالى نخرج من هنا، وخرجت معها وجلسنا على الترابيزة فى حجرة السفرة، وبعد دقائق جاء لى الطبيب الاختصاصى، وقال: الرئيس الآن تحسن وإذا أردت الدخول له فلتدخلى، وأخذ يدخن سيجارة، فقلت له: لا داعى حتى لا يشعر بأنى قلقة.
بعد لحظات جاء الدكتور الصاوى يجرى مسرعا، قائلا: تعالى يا دكتور، ودخل الدكتور يجرى، ودخلت لحجرة المكتب ومنعتنى منى من الدخول لوالدها، وقالت: إن بابا بخير لا تخافى يا ماما، وأجلستنى فى حجرة المكتب وجلست معى، وبعد فترة حضر دكتور آخر ثم ثالث، فدخلت عنده ووجدت الأطباء بجانبه يحاولون علاجه، وكنت أبكى وخرجت حتى لا يرانى الرئيس وأنا أبكى، ثم دخلت له مرة ثانية وازداد بكائى، وخرجت وجلست فى حجرة المكتب.
دخل عدد من السكرتارية ثم حضر حسين الشافعى ومحمد حسنين هيكل، وكل واحد يدخل الحجرة ولا يخرج منها، وكنت أبكى، أصرت منى على أن أخرج إلى الصالة، فكنت أمشى وأقول جمال جمال، ووجدت الكل يخرج وينزل السلالم.. فدخلت مسرعة.
رأيت حسين الشافعى يخرج من الحجرة يبكى ويقول: مش معقول يا ريس، وحضر خالد وعبدالحكيم فى هذه اللحظة، ولم يكونا فى البيت ولا يعرفا شيئا ودخلا مسرعين، وحضرت هدى وكانت لا تعلم بما جرى بعد ذهابها لبيتها، دخلت للرئيس ووقفت بجواره أقبله وأبكيه، ثم خرجت من الحجرة لأستبدل ملابسى وألبس ملابس الحداد.
نزلت مسرعة إلى الدور الأول، ووجدت الكل.. الأطباء والسكرتارية وهيكل وحسين الشافعى وأنور السادات حضر، والكل واقف فى الصالون، قلت: لقد عشت ثمانية عشر عاما لم تهزنى رئاسة الجمهورية ولا زوجة رئيس الجمهورية، وسوف لا أطلب منكم أى شىء أبدا، أريد أن يجهز لى مكان بجوار الرئيس لأكون بجانبه، وكل ما أرجوه أن أرقد بجواره.
خرجت إلى الصالة وجاء لى هيكل والدكتور الصاوى وطلبا منى أن أصعد للدور الثانى، ثم أدخلنى الدكتور حجرتى وأعطانى حقنة، وحضرت إحدى قريباتى وظلت معى، وجاء عبدالحميد من الإسكندرية ودخل لى الحجرة وهو يبكى، وقال: لقد قالوا لى إن بابا تعبان، وحضرت فى طائرة، ودخلت هدى ومنى، ولم أدر كم مضى من وقت، فقمت لأخرج من الحجرة، فقال لى الدكتور: لماذا قمت؟ فقلت سأذهب وأجلس بجانبه، فقالت هدى: لقد ذهب بابا لقصر القبة، وذهبنا معه، فقلت: حتى الآن أخذوه.
الآن أعيش المرحلة الثالثة من حياتى حزينة أبكيه، وقد زاد حزنى حسرة، وسأظل أبكيه حتى أرقد بجانبه فى جامع جمال عبدالناصر بمنشية البكرى، وقد جهز لى المكان كما طلبت، إنه جمال عبدالناصر، الذى عاش عظيما، وهو فى رحاب الله عظيم، تاريخه وحده هو شاهده.
التوقيع: تحية جمال عبدالناصر
لقد كتبت تحية ما لديها.. سجلت حياتها التى لم تكن إلا حياة فى ظل رجل تصادف أنه كان الرئيس.. وهذا يكفيها.