رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا شوهت تحية عبدالناصر صورة أنور السادات؟

عبدالناصر والسادات
عبدالناصر والسادات

كما أشارت تحية عبدالناصر نفسها، فإنها انتهت من كتابة مذكراتها للمرة الثالثة، فى بداية السبعينيات، تحديدًا فى الذكرى الثالثة له، أى فى سبتمبر ١٩٧٣، وفى هذه الفترة لم تكن الحملة المخططة والمرعية بمعرفة الرئيس السادات لتشويه صورة عبدالناصر قد بدأت بعد.
لقد أيقن السادات أنه وبعد انتصاره فى حرب أكتوبر، فى حاجة إلى شرعية جديدة، يحكم من خلالها الشعب المصرى، لقد ظل محمولًا على أنه خليفة عبدالناصر، وأنه يسير على طريقه، ولم ينس المصريون مشهده التمثيلى الدرامى، عندما دخل مجلس الأمة للمرة الأولى بعد أن أصبح رئيسًا، عندما انحنى أمام تمثال عبدالناصر النصفى تبجيلًا واحترامًا وتقديرًا.
ولأن كاريزمة عبدالناصر وأسطوريته لم تكن بالأمر الهين، فقد كان ضروريًا أن يهيل السادات وجيشه من الكَتبة التراب على عبدالناصر، وهو ما حدث بعد انتصار ٧٣، وهو الانتصار الذى منح السادات فرصة أن يحصل على شرعية من كونه الرئيس المنتصر.
ورغم أن وقائع التشويه المتعمد، لم تكن قد بدأت بعد، عندما كانت تكتب تحية عبدالناصر مذكراتها، فإن تشويهها صورة الرئيس السادات يحتاج إلى تفسير من نوع خاص، لكن ما الذى كتبته تحية عن السادات؟.
يظهر السادات فى مذكرات تحية فى مواقف متفرقة، لا يجمع بينها شىء، فقد كتبت ما كتبته على طريق التداعى، تكتب ما تتذكره، دون أن يكون هناك رابط موضوعى بينها، ولذلك فإن السادات يظهر كلما كانت هناك مناسبة لظهوره.
يظهر السادات للمرة الأولى فى مذكرات تحية فى صيف ١٩٥٢، أى قبل أيام قليلة من ثورة يوليو، وهو ما يوحى بأن تحية لم تكن تعرفه من قبل، ولم يكن من بين الضباط الذين يزورون عبدالناصر، ولا من الضباط العاديين الذين كانوا يأتون إلى بيته فى زيارات عادية، ولا من بين الضباط الذين أطلقت عليهم أنهم من إياهم.
تقول تحية: «الوقت بداية صيف سنة ١٩٥٢ على ما أذكر، حضر زائر وكان بعد خروج جمال فى المساء قبل المغرب، وكان المراسلة غير موجود ففتحت له الباب، وسأل عن البكباشى جمال عبدالناصر، فقلت له إنه خرج، فكتب لى ورقة وانتظرته حتى أعطاها لى، ووضعتها فوق البيانو كعادتى، وبعد رجوع جمال أخبرته بحضور الضيف وأنه أعطانى الورقة بعد أن كتبها، وقلت: إنه أسمر شديد السمرة، فقال: إنه متزوج حديثًا وزوجته بيضاء جدًا، وكان هذا الضيف أنور السادات».
يظهر السادات للمرة الثانية بعد الثورة، عندما حكى جمال لتحية عما جرى، تقول: «تحدث جمال وقال لقد أرسل الملك مبعوثًا من قبله وأملينا عليه تغييرات وشروطًا، وكل ما طلبناه وافق عليه فورًا، وحدثته عن حضور ثروت عكاشة فى الصباح وتهنئته لى وقوله: اسمعى البيان فى الساعة السابعة، وسمعته، فقال جمال: إنه أنور السادات، وقال: لقد كان هو وزوجته فى السينما، وعندما رجع وقرأ الورقة المكتوب فيها أن يحضر، ارتدى ملابسه العسكرية، وخرج مسرعًا، وفى طريقه للقيادة، عند مدخل مصر الجديدة منعه الضابط المكلف بالوقوف هناك لعدم معرفته كلمة السر، وبعد إلحاح سمح له الضابط بالمرور، وعند مدخل القيادة منع أيضًا من الدخول فلف ودار حول القيادة دون جدوى، وأخيرًا نادى وصاح فسمعه عبدالحكيم عامر، وعلمت بحضوره، ودخل القيادة عند الفجر، وفى الصباح أعطيته البيان ليقرأه فى الإذاعة، وكان جمال عبدالناصر يضحك وهو يحكى عن أنور السادات».
وكما جردت تحية عبدالناصر، أنور السادات من أى دور ليلة الثورة وقبلها، فقد جردته أيضًا مما عرف عنه من أنه عمل صحفيًا وأشرف على إصدار جريدة الجمهورية، وهى الجريدة التى صدر ترخيصها باسم جمال عبدالناصر وكان يرعاها بنفسه.
تقول تحية عن ذلك: «بعد قيام الثورة بأيام بدأ جمال يحضّر لإصدار جريدة يومية، واشتغل وبذل جهدًا كبيرًا قبل إصدارها، وكنت أسمعه وهو يتحدث بجانبى بعد رجوعه إلى البيت فى الليل ويوجه تعليمات وترتيبات ومشاورات، وكان يكتب نسخًا وأراها فى البيت كنموذج، ويغيّر ويبدل فى ترتيبها وشكلها عدة مرات قبل إصدارها، وأخيرًا صدرت جريدة الجمهورية، وكانت الفرحة على وجهه، وهو يسلمنى العدد الأول، وكنت أعتز بجريدة الجمهورية لما شاهدته من اهتمام جمال عبدالناصر بها، كانت تصدر مقالات مهمة فى جريدة الجمهورية، وفى مرة قلت له: إن هذه المقالة من كلامك وقد عرفتها وفهمت أنك كاتبها، فرد وقال نعم».
ثم يظهر السادت ظهورًا عابرًا فى المذكرات فى زحمة تنحى الرئيس عبدالناصر، تقول تحية عن ذلك: «وقت الظهيرة وجدت الحديقة من الخلف تُرص فيها كراسى صفوفًا، ووجدت الإذاعة والتليفزيون تجهّز فى الحديقة، ورأيت مذيعًا من الإذاعة وفريقًا من الأخبار فى التليفزيون، ونظمت الكراسى ووضعت منضدة أمام الصفوف، سألت: ما هذا؟ فقيل لى إن مجلس الأمة سيجتمع هنا، وكان ترتيب الكراسى والصفوف بشكل أدهشنى وكأنها صالة مجلس الأمة فى الهواء الطلق، فقلت فى نفسى: لقد رأيت كثيرًا من المواقف والمفاجآت الغريبة فى حياتى، وها هى تختتم بمجلس أمة فى البيت، تركت الفراندة وكنت أعد أكلًا خاصًا للرئيس فذهبت لإكماله، فدخلت ابنتى منى وقالت: يا ماما أنور السادات وكان فى منصب رئيس مجلس الأمة يعلن فى التليفزيون أن بابا رجع رئيس للجمهورية، وأنت هنا يا ماما، ذهبت للصالة ورأيت أنور السادات وقد قرب من الانتهاء من الحديث، فسألت: وماذا عن مجلس الأمة الذى فى الحديقة والإذاعة والتليفزيون؟ فقالوا لى: إن أعضاء مجلس الأمة لم يمكنهم الحضور لشدة ازدحام الشوارع بالجماهير، وهم مجتمعون الآن فى مقر المجلس بعد أن قبل الرئيس العدول عن التنحى.. كل هذا والرئيس فى حجرته لم يخرج منها.. دخلت له فى الحجرة ولم أقل شيئًا».
لكن إحقاقًا للحق، ذكرت تحية عبدالناصر أنها وعندما كانت تجلس مع الرئيس فى حجرته، وتحدث معها عن أنور السادات نائب رئيس الجمهورية قال لها: إنه أطيب واحد ويحبنا ولا ينسى أبدًا، ودائمًا ما يقول لى أنا لا أنسى فضلك، لم أكن فى الثورة وانت بعت لى وجبتنى، وقال الرئيس لتحية: إنت عارفة إنه ماكنش فى الثورة وأنا بعت جبته. فقالت له: نعم أعرف ذلك.
وتعقب تحية على ذلك بقولها: «ولم يكن أنور السادات فى القاهرة وقت قيام الثورة وأرسل الرئيس فى طلبه من رفح».
ويبدو أن ما قاله عبدالناصر لتحية عن أنور السادات وأنه أكثر واحد يحبه، جعلها تود السادات، تقول: «نشر فى الجرائد عن مرض أنور السادات بالإنفلونزا، وعندما حضر الرئيس من الإسكندرية سألته عن أنور السادات، فقال إنه موجود فى الإسكندرية، فقلت له: ممكن أذهب لزيارته؟ وكان الرئيس زاره، فقال لى: كما تريدين، ذهبت لزيارة أنور السادات ووجدته جالسًا فى الفراندة، واستقبلنى بترحيب ومكثت فى زيارة قصيرة معه».
هذا عن الرئيس السادات، فماذا عن السيدة جيهان السادات، التى كان لها حضورها القوى فى عصر عبدالناصر؟، إن تحية عبدالناصر لم تشر من قريب أو بعيد إلى جيهان عندما توجهت بالزيارة إلى بيت السادات، عندما كان مريضًا بالإنفلونزا، وكأنها ليست موجودة من الأساس، أو أنها كانت موجودة، لكن تحية لم تحب أن تشير إليها أو تأتى على ذكرها بأى حال من الأحوال.
جيهان السادات تظهر بصورة عابرة أيضًا فى مذكرات تحية عبدالناصر، تقول: «وقعت على رجلى ووضعت ساقى فى الجبس أسبوعين، وبعد فك الجبس كنت أذهب إلى مستشفى الدكتور مظهر عاشور، وكان هناك دكتور عظام لعمل علاج بالكهرباء على ساقى، وأثناء ذهابى المستشفى وجدت حرم أنور السادات حتى هنا لم تذكرها بالاسم هناك وأخبرونى بوجودها، وكانت قد أجريت لها جراحة فى أصبع يدها ومكثت فى المستشفى، زرتها فى الحجرة، وكانت أول مرة أراها وأتعرف عليها».
من كلام تحية عن جيهان، يبدو أن الود كان مقطوعًا بينهما.. لكن السؤال الأهم هو: لماذا جاءت تحية على السادات بهذه الطريقة، لماذ جردته من كل ميزة يمكن أن يمتاز بها؟، فقد اجتهدت لأن تقول إنه لم يكن مشاركًا فى الثورة، وإن الرئيس عبدالناصر هو الذى جاء به واستدعاه، وإن السادات كان يدين بالفضل لعبدالناصر من أجل ذلك، وإن السادات لم يكن يفعل شيئًا فى جريدة الجمهورية، رغم أن السادات كتب قصة الثورة كاملة فى جريدة الجمهورية، التى تتحدث عنها تحية، وكان هذا فى وجود عبدالناصر، وكان ما كتبه السادات تعبيرًا عن دوره الكبير فى بناء تنظيم ضباط الأحرار، بل إن السادات تحدث عن دوره فى حماية وصيانة التنظيم عندما سافر عبدالناصر إلى السودان، ولم يكن وقتها قد تزوجت تحية من ناصر، ولو أن السادات تجاوز الحقيقة فى شىء، ما سكت له عبدالناصر.. بل المفاجأة أن كتاب «قصة الثورة» عندما صدر للمرة الأولى، كان جمال عبدالناصر نفسه من كتب مقدمته وأشاد فيها بالسادات.
من بين ما قاله عبدالناصر فى مقدمة كتابه: «فرغت من تصفح كتاب القائمقام أنور السادات، وسألت نفسى عما دفعنى لهذا الإعجاب به، فجاءنى الرد المنطقى فورًا، مضمونه المتحلى بسلامة الأسلوب وقوة التعبير وطابع البساطة فى سرد الحوادث وعرض المواقف، فى الوقت الذى أرى فيه الكاتب قد تجنب الحديث عن نفسه، فنجده لم يعمد لكتابة قصة حياته، ولم يقم بتحقيقات صحفية كبرى، بل قدم لنا سلسلة رائعة متصلة من المشاهدات التى مرت تحت بصره وسمعه، جمعتها ريشة رسام ماهر، وصورتها فى صورة واحدة، أبرزت مجموعها حقائق وأسانيد، تتيح لنا دراسة أحوال مصر المعاصرة».
عبدالناصر هنا يعترف بأن أحداث الثورة مرت تحت بصر وسمع السادات، لكنه مع زوجته ينفى أى دور قام به السادات، وهو ما يجعلنا نفهم لماذا جاء السادات رغم أهميته وطبيعة دوره فى الحياة السياسية المصرية مهمشًا وضائعًا فى مذكرات تحية.
إنها زوجة تقدس زوجها، وتأخذ عنه ما يقوله وتعتبره أنه الصواب والحق المطلق، وعليه فقد تأثرت بما كان يقوله لها عبدالناصر عن السادات، وهو الكلام الذى يتناقض مع الحقيقة والتاريخ.. لكن من قال إننا يمكن أن نأخذ التاريخ عن مذكرات تحية عبدالناصر.