رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثورة خرجت من بيت تحية دون أن تعرف عنها شيئًا

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

لم يكن وصف «شاهد مشفش حاجة»، الذى أطلقته على تحية عبدالناصر، من فراغ، فقد مرت الأحداث جميعا من أمامها دون أن تدرى عنها أى شىء، إن كثيرين كتبوا عن تنظيم الضباط الأحرار، الذى قاد ثورة ٥٢، أرفقوا بما قالوه وثائق وشهادات شهود.. ومواقف معلنة وسرية، لكن هذه المرة أجد تاريخ تنظيم الضباط الأحرار يكتب بالإحساس.
القصة طويلة، كما جاءت فى مذكرات تحية عبدالناصر، ويمكن أن نمسك بخيوطها لننسج الثوب الكبير.. ولكن على مهل.
تقول تحية: «كان يحضر زوار، وأغلبهم من الضباط، يقابلهم ويجلس معهم، ولا يحضرون كلهم مع بعض، يعنى واحد يجىء وواحد يذهب، وأحيانا يكونون اثنين أو ثلاثة مع بعض، ثم بعد ذلك إما أن يبقى جمال فى البيت أو يخرج، وإما بمفرده أو مع زائر أو اثنين».. ولم تكن تحية تعرف من هؤلاء الزائرين، لكنها بعد فترة بدأت تميز أصواتهم، فقد عرفت صوت عبدالحكيم عامر، إذ كانت له طريقة فى كلامه وضحكه.
كان جمال عبدالناصر مشغولا بالمذاكرة، استعدادا لدخول امتحان كلية أركان حرب، وكان يقول لتحية إن الامتحان ليس سهلا، فالعلوم كلها باللغة الإنجليزية، والمدرسون إنجليز، وكل سنة يتقدم عدد كبير من الضباط، ولا ينجح إلا عدد قليل، إذ كان الامتحان على مرتين، يعنى تصفية، أول امتحان ينجح عدد ثم الثانى ينجح منهم عدد ويرسب عدد، وعليه فلا يدخل كلية أركان حرب كل سنة إلا عدد قليل.
أثناء مذاكرة جمال، التى كانت متواصلة، كان يأتيه زملاؤه من الضباط، تقول تحية: «كان يتردد عليه الضباط أحيانا وهو يذاكر، فكنت أراه يسمع خبطة الباب فيفتحه من حجرة السفرة، وأراه يدخل الصالة ثم يدخل الصالون، ويدخل الضيف من باب الصالون الذى على السلالم، ثم يحضر ضيف آخر يخبط الباب فألاحظ أنه يخرج إلى الصالة ويدخل حجرة السفرة، ويدخل الضيف الآخر حجرة السفرة من بابها، ويمكث مع أحد الضيفين فترة حتى يذهب، وغالبا لا يمكث كثيرا، ثم يذهب للضيف الآخر، أى لا يجمع بين الاثنين، ثم بعد ذلك يرجع للمذاكرة».
لم تسأل تحية كعادتها جمال عما يحدث، ولا عن هؤلاء الزائرين الغامضين الذين لا تعرف عنهم شيئا، ولا تقوم لهم بواجب الضيافة على الأقل، فقد اكتفت بأن ترصد ما يدور فى بيتها دون أن تعرف عنه الكثير، تقول: «كان بعض الضباط يحضرون ويمكثون فى حجرة السفرة معه وهو يذاكر، وهم الذين يذاكرون معه أحيانا، وكان هو الذى يجهز الدوسيهات الخاصة بكلية أركان حرب من المراجع الكبيرة والكثيرة التى كان أغلبها باللغة الإنجليزية، وإذا سمعت حديثا فبعضهم يكون صوته عاليا يكون كله عن العلوم وأكثرهم مذاكرة معه صديقه عبدالحكيم عامر».
تلتقط تحية تفاصيل متناثرة عن أصدقاء جمال، أو الذين سيكونون بعد سنوات رجال جمال عبدالناصر، لكنها لم تربط بينهم فى مذكراتها، التى كتبتها بعد سنوات طويلة من الثورة، وكان يمكن لها أن تكون مصدرا مهما من مصادر التأريخ للثورة، لكنها اكتفت بأن تكتب ما يمكن أن نعتبره مجرد خواطر... فكثير أن نقول عما كتبته هذه السيدة الفاضلة مذكرات.
استمر جمال فى المذاكرة، واستمرت تحية عبدالناصر فى رصد ما يجرى حوله، تقول: «الضباط وغير الضباط يحضرون واحدا بعد الآخر، أو اثنين، وأحيانا يجتمع عدد كبير يملأ الصالون ويمكثون وقتا طويلا، وحضورهم لا يكون فى وقت واحد، ولا ينصرفون فى نفس الوقت أيضا، وهذه الاجتماعات كانت على فترات أكثر من أسبوع، فكان فى الأيام الأخيرة قبل الامتحان يذاكر حتى الصباح، وكان عدد من الضباط يحضرون ويدخلون حجرة السفرة، وأكثرهم مذاكرة معه عبدالحكيم عامر، وفى مرة أحضر معه زوجته لتبقى معى، وهو يذاكر مع جمال».
فى الأيام الأخيرة قبل الامتحان – وكما تقول تحية حضر ضابط اسمه زكريا محيى الدين، هكذا كتبت تحية، وتكمل: «كان يدخل لجمال وهو يذاكر فى حجرة السفرة، وكنت أسمعه وهو يدقق فى فهم العلوم ويكرر، وقد ميزت صوته أيضا من تدقيقه فى الفهم وترديده الجملة، وقال لى جمال عنه إن والده يملك عزبة وإنه لم يتزوج بعد، وكان يحضر بعربته الخاصة الجديدة».
ما يدهشك أن تحية كانت تتابع ما يفعله عبدالناصر بصبر وعدم تدخل غريبين، لكن أشد ما يمكن أن يدهشك ما قالته: «كان جمال يدخل حجرة النوم ليستريح بعد الغداء، لكنه قلما كان يبقى فى السرير أكثر من دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة على الأكثر، ويخبط الباب ويدخل زائر الصالون فيقوم ويقابل الضيف، وبعد انصرافه يرجع الحجرة، ثم يحضر ضيف آخر وهكذا، وأحيانا يخرج بعد تناوله الغداء مباشرة ثم يرجع إلى البيت، ويحضر ضيف ثم يخرج ثانية إما مع الضيف أو بمفرده بعد انصراف الضيف».
ليس هذا ما يدهش بالطبع، لكن ما يدهش هو ما قالته تحية، تعليقا على ذلك، فقد قالت: «للآن لم ألاحظ أى شىء غير عادى أو سرى».
ولدت هدى، ومن بعدها ولدت منى، وأصبح جمال أبا، وتصف تحية إحساسها به، بأنها كانت سعيدة ولم يضايقها أى شىء، كانت ترى فى عينيه الحب والإعزاز، وكان يداعب ابنتيه كثيرا، وهو ما جعل تحية تتمنى أن تفعل كل ما تستطيعه من أجل راحته.
اختلطت زيارات الزائرين الغامضين بحياة تحية، تقول: «استمر الحال، حضور الزوار فى كل الأوقات، وفى غيابه يسألون عنه، وخروجه ورجوعه البيت لمقابلة الزوار أو الجلوس مع زائر فى الصالون، وفى يوم كانت تزورنى شقيقتى وزوجها، وكنا جالسين فى الصالة، وكان فى أغلب وقت وجود جمال فى البيت، يكون موجود ضيوف فى الصالون، وسمعنا تكتكة، فقال زوج أختى: هذا صوت تجربة مسدسات فاضية، أى غير معمرة، فتداركت بسرعة وتذكرت خرامة الأوراق، وهو يرتب دوسيهات خاصة بالكلية، والحقيقة أنها كانت مسدسات».
كان هناك شخص واحد عرفته تحية عبدالناصر، تحكى هى عما جرى تقول: «فى يوم كنت فى حجرتى، وكنت أحاول أن تنام منى البيبى، والنور مطفأ وباب الحجرة مفتوح على الصالة، فخبط الباب وفتح المراسلة، فوجدت رجلا كبيرا فى السن دخل الصالة، ووقف قرب الباب، وكان جمال فى الخارج، فقال له المراسلة: إن حضرة اليوزباشى غير موجود، فلم يذكر الزائر اسمه وانصرف، رأيته وأنا فى حجرتى وعرفته، وعندما حضر جمال أخبرته أنه عزيز المصرى، فقال: أنت متأكدة؟ قلت له: نعم، أنا أعرف أنه مغامر وكتب عنه فى الجرائد ونشرت صوره قبل زواجنا بمدة قصيرة».
خرج جمال عبدالناصر على الفور، وعندما رجع، قال لها: لقد ذهبت لعزيز المصرى وأخبرته أنك عرفتيه، هنا فقط بدأت تفهم تحية أن هناك شيئا غير طبيعى، تقول: مازلت للآن لم أفهم شيئا إلا أنى أعرف أن وجود مسدسات مختلفة الأحجام أكثر من واحد وحضور عزيز المصرى شىء محظور ويجب ألا يعلمه أحد»... لكن، ورغم ذلك، فإن تحية لم تحاول أن تسأل عبدالناصر عما جرى أو عما يجرى بالفعل.
عاشت تحية مرارة ووحدة البعد عن جمال عندما شارك فى حرب فلسطين، كان لا ينقطع عن الكتابة إليها، وعندما عاد من فلسطين بدأ مرحلة جدية من حياته ونضاله السياسى، وهى مرحلة لم تعرف عنها تحية إلا القليل جدا، تحت عنوان «مدافع وقنابل وذخيرة فى بيتنا».. تحدثت تحية عن أشياء تراها لكن لا تعرف ما وراءها.
تحكى تحية: «كان جمال يذهب إلى السويس وبورسعيد أثناء شغله لتعليم وتدريب الضباط الذين عندهم فرقة، ويغيب لمدة يومين أو ثلاثة، أحيانا مرة فى الشهر أو أقل من شهر أو أكثر، وأحيانا كان يغيب يوما واحدا، ولم ينقطع وجود الأسلحة فى البيت، ومنها الحجم الكبير، أى المدافع التى لا يمكن وضعها فى دولاب، فكنت أضعها فى ركن فى حجرة السفرة ولا تبقى طويلا، يوما أو يومين وتختفى وأستريح، ثم يصلنا غيرها، وكانت بالنسبة لهدى ومنى شيئا مألوفا، وعندما تريان المدافع تقولان: عندنا مدفع كبير يا ماما، وتجريان وتلعبان فرحتين، فكنت أقفل باب الحجرة فتنشغلان باللعب فى الصالة أو الفراندة».
كان فى حجرة السفرة دولابان كبيران على جانبى الحجرة، وفى الوسط دولاب آخر أصغر وأعلى، كما كان الطراز فى ذلك الوقت، دخل جمال وكانت تحية جالسة فى حجرة النوم، وأعطاها مفتاح دولاب منها وقال: الدولاب الذى على اليمين به قنابل وقد قفلته حتى لا يفتحه الأولاد، فليبق معك المفتاح حتى أطلبه، خبأت تحية المفتاح ولم تعد تقترب من الدولاب، بل أصبحت تخاف منه.. ولم تكن تفعل إلا أن تعطى المفتاح لجمال عندما يطلبه منها، ثم تعود لتخبئه من جديد.
وفى مرة حضر زائر وأعطى تحية شنطة متوسطة بها ذخيرة وسلاح، فدخلت بها إلى حجرة النوم، وكانت عندها ضيفة، فقالت لها إن جمال أرسل الشنطة لأضع فيها ملابسه لأنه عنده شغل خارج القاهرة، وتقول تحية: «كل شىء فى البيت كان محظورا ولا يبعث على الاطمئنان، وكنت أعرف ذلك، لكنى لم أفهم ما هى الغاية».
وفى مرة كانت تحية جالسة فى الصالة بعد الظهر بعد خروج جمال، ورأت عسكرى المراسلة يحمل صندوقا به مدافع، من حجم المدفع، الذى يحمله جندى الجيش، وكان الصندوق وصل البيت من قبل، رأت تحية المراسلة يفتح الباب ليخرج بالصندوق، قالت له: أين تذهب بهذا الصندوق؟ فقال لها: جناب البكباشى طالع الجبل باكر، وقال لى أنظف الأسلحة، وسأنظفها بالجاز على سلم حجرتى بالبدروم، وكانت حجرته فى مدخل البيت، فقالت تحية فى نفسها: كيف يجلس على باب البيت ينظف الأسلحة.. دى تبقى مصيبة؟، قالت له: إنت عارف يوجد أولاد كثيرون يلعبون الآن، وربما وأنت جالس تنظفها تضيع منك قطعة وتبقى مسئول، فرد عليها: نعم دى فيها جزا كبير قوى للجندى إذا ضاعت منه البندقية أو قطعة منها، وكان يسميها البندقية، واستقر الأمر على تنظيف السلاح فى المطبخ.
وتعلق تحية بأن هذه الأسلحة كانت تنقل من المنزل لتستخدم ضد الإنجليز فى السويس.
ولم يكن هذا التعليق نتيجة أن تحية سألت جمال وعرفت منه، فقد كان هو من قال لها، تقول: «قال لى جمال إن الأسلحة التى أراها فى البيت تنقل للسويس والأماكن التى فيها إنجليز، ليقتل منهم فيشعرون بالقلق، وبأنهم فى بلدنا غير آمنين على حياتهم، وأضاف: أن الخطط توضع هنا فى البيت، وكل واحد رايح السويس يمر علىّ قبل ذهابه، فسألته: إذا كان هو يذهب هناك، فقال لى: نعم إنى أذهب، وطبعا رجوته ألا يذهب».
ومرة أخرى على ما تروى تحية: «حضر أحد الضباط، وكان الوقت بعد الغروب وأعطى المراسلة كيسا كبيرا، وقال له: إن به عدد ٢ سرير سفرى، وعندما يحضر البكباشى جمال سيختار منهما واحدًا والثانى سيرجع للمحل، وهما ملفوفان بالورق فلا تفتح الكيس، وأوصاه بوضعهما فى مكان بعيد عن الأولاد ليظل الورق عليهما، ونظرت للكيس وفهمت أنهما مدفعان كبيران، وعندما رجع جمال حدثه المراسلة عن الكيس، وعما قاله الضابط، وكان فى الصالة، وكنت واقفة وبعد أن دخل جمال الحجرة دخلت وراءه مسرعة، وقلت له بصوت واطى، وأنا أضحك من المراسلة: إنهما مدفعان كبيران وليسا سريرين، فقال لى جمال: أنا عارف أنهما مدفعان، وأنا الذى أرسلتهما مع الضابط، هذا كان يحصل فى بيتنا وكنت دائما مرحة سعيدة أضحك كثيرا».
لم يكن السلاح هو الشىء الوحيد الممنوع فى بيت جمال عبدالناصر، كانت الكتب أيضا ممنوعة، تقول تحية: «وفى يوم رأيت فى الحجرة كتابا عن أحد المقربين من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أبى ذر الغفارى، حضر جمال ووجدنى أقرأ فيه، فقال لى: هذا كتاب ممنوع فى مصر وسآخذه بعد يومين، فزادت رغبتى فى قراءته، وقرأته، وقلت فى نفسى: كل شىء أراه فى البيت ممنوعا حتى الكتب».
إن هناك حالة من الجدية الشديدة تبدو فى طريقة كتابة تحية لمذكراتها، لكننى ألمح بين بعض سطورها خفة ظل مصرية، وهى خفة الظل التى ظهرت فى تفريقها بين زوار جمال تقول: «كان الضباط والزوار الذين يضحكون ويهرجون ولا يمكثون طويلا فى نظرى زوارا عاديين، وهؤلاء الذين يحضرون فى أوقات مختلفة ويجلسون فى الصالون والحديث يكون بصوت واطى، كنت أسميهم فى نفسى إنهم من إياهم».
اقتربت تحية أكثر مما يدور، ومن قصة الضباط الزائرين إلى بيتها دون أن تعرف حقيقتهم، تقول: «وجدت يوما فى حجرة السفرة آلة كاتبة موضوعة فوق الدولاب الذى لا أفتحه، وبعد تناولنا الغداء فى الوقت الذى ما بين الظهر والعصر دخل جمال حجرة السفرة، ووضع الآلة الكاتبة على الترابيزة وأخذ يكتب عليها، سمعت التكتكة، وكانت أول مرة أراه يكتب على آلة كاتبة، فقلت له أنا عارفة إنت بتكتب حاجة لا تريد أن تكتبها بخط يد، فرد وقال: لا تشغلى نفسك ولا تفكرى فى شىء».
لكن تحية فوجئت فى يوم أن عبدالناصر يقول لها: تحية تخلصى من كل ورقة مكتوب فيها أى اسم فى البيت، فقد كان جمال يأخذ الأوراق المكتوب بها أسماء ضباط أو زوار يحضرون فى غيابه، ويتركها فى حجرة النوم أو تظل فوق البيانو فوق بعضها، وكانت تحية تحرص على ألا تضيع أى ورقة تخصه، فتخلصت من كل الأوراق الموجودة.
وفى مرة أخرى، قال لها جمال قبل خروجه: تحية لا تفتحى الباب لأى زائر قبل أن تتأكدى منه، وافتحى الباب من فوق أولا، قالت له: أنا أفعل ذلك هذه الأيام تلقائيا حتى لا أظهر (كانت تحية حاملا فى شهرها الرابع).
وفى واقعة أخرى، قال لها جمال: إذا حضر أحد وطلب يدخل ويفتش البيت فلتكونى شجاعة وتقولى: لا أسمح لأحد أن يدخل فى غياب جمال عبدالناصر، ولا تخافى وتقفلى الباب فى وجهه، فقالت له حاضر.
وكان لابد بعد كل هذا القلق أن يتحدث عبدالناصر إليها، تقول تحية: «تحدث معى جمال يوما، وقال: أنا مشغول جدا وبأفكر كتير، فقلت له: إنى أرى كل ما يدور حولى غير عادى، وعارفة إنه يخالف الحكومة وضدها، فما هى الغاية؟ وما هو الهدف؟ فقال لى: الأحسن ألا تعرفى شيئا، وتظلين كما أنت، فقلت له: أيوه أحسن ربما ألخبط الدنيا إذا سُئلت، فضحك وقال: وتغرقينى، فقلت: خلينى زى ما أنا أحسن.. لا أفهم شيئا».