رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل كانت تحية عبدالناصر المرأة الأولى في حياة زوجها؟

زفاف الزعيم جمال
زفاف الزعيم جمال عبدالناصر

اختارت تحية عبدالناصر أن تبدأ مذكراتها بالجزء الخاص جدًا بينها وبين زوجها، فهى تروى ذكرياتها معه وحده.
كانت عائلتها على صداقة قديمة مع عائلته، وكان ناصر يحضر مع عمه وزوجته التى كانت صديقة لوالدتها، ويقابل شقيقها الثانى، وأحيانا كان يراها ويسلم عليها، وعندما أراد أن يتزوج أرسل عمه وزوجته ليخطبها، وكان وقتها برتبة يوزباشى.
لم توافق عائلة تحية فى البداية، قال شقيقها - الذى كان ولى أمرها بعد وفاة أبيها - إن شقيقتها الكبرى لم تتزوج بعد، وعندما عرف جمال قال إنه لا يريد أن يتزوج الآن إلا بعد زواج شقيقتها، وبعد حوالى سنة تزوجت الشقيقة.
لكن بعد الزواج أيضا لم يوافق الشقيق على الزواج، فقد كانت تقاليد العائلة أنه لها الحق فى أن ترفض من لا تريده، ولكن ليس لها الحق فى أن تتزوج من تريده، وكانت فى قرارة نفسها تريد أن تتزوج اليوزباشى جمال عبدالناصر.
بعد شهور قليلة توفيت والدة تحية، فأصبحت تعيش مع أخيها، الذى تولى إدارة ما تركه الوالد الذى كان على جانب من الثراء، وكان شقيقها مثقفا إذ كان من خريجى كلية التجارة، ويعمل فى التجارة والأعمال المالية والصفقات فى البورصة، وكان شديدا فى البيت، محافظا لأقصى درجة، لكنه كان كعادة المصريين له حياته الخاصة التى لا يعرف أحد عنها شيئا.
مكثت تحية مع شقيقها بضعة شهور، وحيدة تزورها شقيقاتها، وفى يوم زارتها شقيقتها وقالت لها: «إن عم اليوزباشى جمال عبدالناصر وزوجته زاراها وسألا عنها»، وقالا لها: إن جمال يريد الزواج من تحية، وطلبا أن أبلغ أخى، فرحب أخوها وقال: «إننا أصدقاء قدماء وأكثر من أقارب»، وحدد موعدا لمقابلتهم.
كان التاريخ الذى لم تنسه تحية عبدالناصر هو ١٤ يناير ١٩٤٤، فى هذا اليوم قابل جمال شقيقها، وتم تحديد موعد الخطوبة، ولبس الدبل والمهر، وكل مقدمات الزواج بعد أسبوع، كان هذا الحديث بعد أن جلست تحية فى الصالون فترة وخرجت.
وفى يوم ٢١ يناير سنة ١٩٤٤، أقام شقيقها حفلة عشاء دعا فيها أقارب العائلة، وحضر والد عبدالناصر وعمه وزوجته، وألبسها الدبلة، وقال لها إنه كتب عليها التاريخ يوم ١٤ يناير، وكان يقصد أول يوم أتى لزيارتها، ثم أضاف أنه عندما زارها لم يحضر لرؤية هل تعجبه أم لا، كما كانت العادة فى هذه الأيام، وكان هذا ما فهمته تحية من جمال.
قرر شقيقها أن يكون عقد القران يوم الزفاف بعد إعداد المسكن، وأن يحضر جمال لزيارتها يوما واحدا فى الأسبوع بحضور شقيقتها الكبرى، أو بحضوره هو، ولأن حضور شقيقها فى البيت كان قليلا جدا، فكانت الشقيقة الكبرى تحضر قبل وصوله مباشرة، وتقبل جمال كل شروط الشقيق الكبرى لتحية، ولما أبدى رغبته فى الخروج معها بصحبة شقيقتها وزوجها، لم يمانع شقيقها.
لاحظت تحية أن جمال عبدالناصر لا يحب الخروج لمجرد الخروج، فهو لم يكن يذهب ليجلس فى مكان أو يتمشى فى شارع بعينه، ولكنه كان يفضل السينما وأحيانا المسرح، واصطحبها مرة إلى مسرح الريحانى، ولأنها لم تكن قد رأت شيئا كثيرا، فقد كان كل شىء بالنسبة لها جديدا.
بعد خمسة شهور ونصف الشهر، وفى يوم ٢٩ يونيو سنة ١٩٤٤ أقام عبدالناصر حفل زفافه على تحية، وبعد عقد القران مباشرة خرجت مع جمال عبدالناصر للمصور أرمان، وكان جمال قد حجز الميعاد من قبل، وكانت أول مرة تخرج معه بدون شقيقتها وزوجها، ملأ لها العربة بأكاليل الورد لتظهر فى الصورة.
رجعا إلى بيت شقيقها فى الواحدة والنصف صباحا، وبعد أن انصرف المدعوون، وانتهى حفل الزفاف، وكانا جالسين فى الصالون، دخل شقيقها ونظر فى ساعته، وقال لهما: «الساعة الآن الواحدة فلتبقيا ساعة أخرى أى حتى الساعة الثانية».
كان الأقارب جميعا قد انصرفوا، وكان شقيق تحية متأثرا للغاية، فقال له جمال: «سنبقى معك حتى تقول لنا روحوا»، وفى الساعة الثانية صباحا قام شقيق تحية وبكى، وسلم عليها وقبلها وقال لهما: اذهبا الآن.
لم ينس جمال عبدالناصر ما فعله شقيق تحية معه، فقد جعله يمتثل لكل ما قاله وطلبه، وتذكر تحية أنها كانت جالسة مع جمال وأولادهما على السفرة يتناولون الغداء، وفوجئت بعبدالناصر يقول لأولاده متذكرا شقيق زوجته: «الوحيد فى العالم الذى أملى على شروط وقبلتها كان عبدالحميد كاظم».
انتقلت تحية عبدالناصر إلى منزل الزوجية، لم تكن قد رأت المسكن من قبل ولا الفرش ولا الجهاز، كان المسكن فى بيت بالدور الثالث، صعدت السلالم معه حتى الدور الثانى، ثم حملها إلى الدور الثالث، حيث المسكن، وكان طابقا بأكمله، وله ثلاثة أبواب، باب على اليمين، وباب على اليسار، وباب على الصالة، الأول يوصل لحجرة السفرة، والثانى لحجرة الجلوس، والثالث وهو باب الصالة فى الوسط.
وجدت تحية البيت كله مضاءً، ومكونًا من خمس غرف، أمسك جمال بيدها، وأدخلها كل حجرات المنزل لتتفرج عليها، وقد أعجبها فيه كل شىء، وكانت فى غاية السعادة، وصرفت فى تأسيس منزلها مما ورثته من أبيها، وبدأت حياتها بسعادة مع زوجها الحبيب، كانت تعيش ببساطة بمرتب جمال، وتركت أخاها وثراءه ولم تفتقد أى شىء حتى التليفون نسيته، ولم تشعر أن هناك شيئا ناقصا.
أول مرة خرجت فيها تحية من بيتها، كان بعد زواجها بثلاثة أيام، وكانت إلى المصور أرمان لترى بروفة الصور، وكانتا صورتين، قال لها جمال: اختارى التى تعجبك، واختارت الصورة التى هى معلقة فى صالون فى منشية البكرى مع صورة أولادها.

تزوج عبدالناصر تحية زواج صالونات إذن، لم تجمع بينهما قصة حب، مجرد حكاية تقليدية تحدث فى كل مكان وفى كل وقت، وهى حكايات فى الغالب تنجح، لكن هل عاش جمال عبدالناصر حياته قبل أن يتزوج من تحية دون قصة حب؟
الإجابة عند شفيق أحمد على الذى أحدث دويًا بكتابه الشهير «المرأة التى أحبها عبدالناصر».
يقول شفيق: «لم نقرأ فى أى صحيفة اسم زوجة عبد الناصر - حتى بعد وفاته - مجردا من أى صفة، قرنها دائما مرصعا بصفة السيدة الجليلة، وقرأناها أيضا مقترنا بما يقطع بأنها المرأة الوحيدة التى أحبها وتمناها عبدالناصر طوال حياته، أما أنها سيدة جليلة، فهذا بالقطع أكيد، وأما أنها المرأة الوحيدة التى عرفها وأحبها طوال حياته.. فهذا بالضبط غير صحيح».
ومن لا يصدق يفتح جريدة الأهرام الصادرة فى ١٧ مايو سنة ١٩٧٠ على صفحة الوفيات، إن كان يهمه أن يعرف اسم أول امرأة خفق لها قلب عبدالناصر، وإن كنت أثق - الكلام لا يزال لشفيق أحمد على - فى أنكم ستوافقوننى على عدم ذكر اسمها الحقيقى فى هذه السطور، خصوصا أنها رحلت عن دنيانا.
شيعت جنازة هذه السيدة، فى تمام الحادية عشرة من صباح ١٧ مايو ١٩٧٠، شيعت ولم تذكر صفحة وفيات الأهرام، ما ذكره المستشار حسن النشار (زميل عبدالناصر فى الدراسة والذى عرف القصة كلها من ناصر مباشرة)، مؤكدا أن عبدالناصر وضع يومها على عينيه نظارة سوداء، وأسدل ستائر سيارته من كل جانب، وسار بها وحده، بضعة أمتار خلف الجنازة دون حراسة، ودون أن يشعر به أحد.
فى ٢٨ مايو، لكن فى العام ١٩٣٩ كتب عبدالناصر بخط بيده فى رسالة إلى حسن النشار، بأنه أحب سين هانم، ويتمنى لو يتزوجها، وأنه كان ينتظرها أمام سينما فيكتوريا ليمتع نظره برؤيتها كل أيام الأسبوع، فيما عدا يومى السبت والثلاثاء.

لا تهمنى كثيرا هنا تفاصيل قصة الحب التى حققها شفيق أحمد على فى كتابه الجرىء، ومن يرغب فى معرفة المزيد فليرجع إليه، لكن يهمنى أن تحية لم تكن المرأة الأولى فى حياة عبدالناصر، بحثت فى مذكرات تحية عن أى ظلال لهذه المرأة، لكنى لم أجد، وكأنى بعبدالناصر يخفى قصته فى قلبه، فلم يطلع عليها أحد.. أى أحد.

كانت تحية فى بيتها زوجة مصرية كما يريدها زوجها تماما، تقول إنهما: «كانا كأى زوجين نخرج ونستقبل الزوار، وأغلبهم من الأقارب يحضرون للتهنئة، ولاحظت أنه يفضل السينما، وأنا أفضلها».
كان جمال يخرج مع زوجته تحية يوما واحدا فى الأسبوع، وكان الخروج غالبا إلى السينما، وكان الموسم يبدأ بالأفلام الجديدة فى سينما مترو، وريفولى وغيرها، فكان جمال يحجز التذاكر من قبل ليختار المكان الذى يفضله، ويطلب منها أن تكون جاهزة للخروج فى الوقت الذى يحدده، وذلك دون أن تطلب منه الخروج أصلا معه، بل كان هو نفسه الذى يرتب يوم الخروج.
بعد أن عاد جمال من حرب فلسطين انتقل بزوجته وابنتيه - هدى ومنى - إلى بيت جديد فى كوبرى القبة، قال لتحية: قابلت ضابطا أعرفه، رتبته كبيرة يملك فيلا فى كوبرى القبة، وبنى دورين جديدين فوق الدور الأول، والدور الثانى فاضى، ففكرت نعزل ونسكن فى كوبرى القبة.
رحبت تحية بالانتقال إلى البيت الجديد، لم يطلب منها ناصر أن تذهب إلى رؤية البيت الجديد، لكنه ذهب بمفرده مع الضابط ورأى المسكن، ولما عاد قال لها: إنه لا بأس به فلتذهبى معى وتشوفيه، وكان الرد الطبيعى من تحية (لكنه قد يكون غير طبيعى بالنسبة لأى امرأة): مش ضرورى أشوفه ما دام عجبك، فلنعزل، وكوبرى القبة مكان هادئ والدور التانى سلالمه سهلة، وكنت مقتنعة أنه أحسن من البيت الذى نسكنه.
عندما رأت تحية عبدالناصر بيتها الجديد، أعجبها وفرحت به جدا، كان المبنى عبارة عن البدروم، ثم الدور الأول، والثانى مسكنهم، ودور ثالث، ونفس نظام الأبواب الثلاثة كالبيت الأول مع اختلاف، إذ لا يوجد باب يوصل لحجرة السفرة، كالبيت الأول، فالباب الثالث على الشمال يوصل لمدخل صغير للمطبخ.
كان المسكن مكونا من خمس حجرات منظمة، حجرة السفرة ملحقة بحجرة الصالون بدون باب، ولها باب على الصالة، والحجرتان تطلان على الشارع، الصالون به فراندة مستديرة على ناصية البيت تطل على الشارع العمومى. شارع مصر الجديدة، ومن خلاله يمكن رؤية الباص والتروماى والكوبرى الذى يمر تحته المترو أمام المستشفى العسكرى فى ذلك الوقت، وهى الآن الكلية الفنية العسكرية.
حجرة المكتب كانت ملحقة بالصالة بدون باب أيضا، وبها فراندة وشباك فى مواجهة الصالة، يطل على حديقة المنزل الذى يلى المنزل مباشرة، وفى الناحية الأخرى حجرتان للنوم.
النقلة الثالثة فى حياة تحية كانت إلى بيت منشية البكرى، وهو البيت الذى انتقلت إليه فى أكتوبر ١٩٥٢، وظلت فيه حتى ماتت، قال لها جمال: سننتقل من منزلنا إذ أصبح لا يناسبنا الآن السكن مع أناس آخرين فى منزل واحد، وقال: يوجد بيتان، واحد كبير مكون من دورين، وبه عشر حجرات وفى قشلاق العباسية، وآخر فى منشية البكرى، بيت صغير به خمس حجرات.
سألته تحية: وهل هو قريب من شارع مصر الجديدة؟ قال: نعم، فقالت له: أفضل البيت القريب من الشارع العمومى، ولا أسكن البيت الكبير الذى فى قشلاق العباسية، فوافق، وقال لها: اختارى الذى يعجبك، وجهزى نفسك للانتقال وأنا مشغول، ويمكنك العزال وعسكرى المراسلة يحضر العربات لنقل الموبيليا، وتخبرينى بالوقت الذى ستنتقل فيه مفروشات البيت الجديد.
نفذت تحية كل ما طلبه منها جمال، وانتقلت إلى بيت منشية البكرى فى ٢٠ أكتوبر ١٩٥٢، وكانت هذه أول مرة ترى فيه البيت كالبيتين السابقين، وفى المساء وعندما عاد جمال، سألها: هل أعجبك البيت، فقالت: لم يعجبنى، فرد قائلا: إنك ستعتادين عليه.
واعتادت تحية على البيت فعلا، قد كان هذا هو البيت الذى عاشت فيه، ومارست فيه أمومتها، وحميمية العلاقة بينها وبين جمال، استمعت فيه إلى ما كان يريد جمال أن يقوله فقط، لا ما تريد أن تعرفه هى.. فهى لم تكن تسأله عن شىء، تكتفى فقط بأن تنصت لما يقوله، دون أن تطلب منه المزيد.

كان عبدالناصر يحجب عن تحية كل شىء، حتى أنه حجب عنها خبر وفاة شقيقها الأكبر، نفهم ذلك أنها كانت فى فترة ولادتها لابنها خالد.. تقول هى عن ذلك: «مكثت فى المستشفى حتى يوم ٤ يناير سنة ١٩٥٠، وكان جمال يزورنى كل يوم كما هى عادته فى المساء، وكانت هدى ومنى عند شقيقتى مدة وجودى فى المستشفى، وفى اليوم التالى أحضرتهما لى شقيقتى ليريا البيبى، وبعد ذلك لم يزرنى أحد من أخواتى، فكنت أفكر: إنهم لم يزورونى كعادتهم كل يوم، ولم يحضر أخى لزيارتى كعادته، ربما لبرودة الجو وكان ممطرا».
بعد رجوع تحية إلى البيت، وفى اليوم التالى مباشرة، عاد جمال من عمله، وقال لها إنه معزوم على الغداء، وطلب منها أن تتغدى مع هدى ومنى، وحياها وخرج، فلم يعجبها وقت العزومة، وقالت فى نفسها: من هذا الذى دعاه على الغداء وقد حضرت أمس فقط من المستشفى، وكانت تحب أن تتناول الغداء معه فى أول يوم لها فى البيت بعد الولادة.
تكمل تحية حكايتها، تقول: «رجع جمال فى المساء، وكان الوقت قبل ميعاد تناولنا العشاء، وقال: أريد أن آكل حاجة خفيفة، فقمت وأحضرت له جبنة، وقلت فى نفسى: إنه لا يحب إلا أكل البيت، ولم يأكل فى العزومة، وأكل قليلا وقام ودخل حجرة النوم، وقال: إنى أشعر بصداع وتعب، وفى اليوم التالى كان الخميس موعد حفل أم كلثوم أول الشهر، فى المساء خرج ورجع مبكرا، وبعد تناولنا العشاء قال لى: إنى متعب وسأنام ولتسمعى أنت أم كلثوم، فقلت له سأنام وأفضل ألا أسهر فى خلال الأسبوع الأول من رجوعى من المستشفى».
مضت اثنا عشر يوما على رجوع تحية من المستشفى دون أن تزورها شقيقاتها، وفى يوم كانت تستريح مع جمال بعد الغداء فى الحجرة، فقالت له: لم يحضر أحد من أخواتى وكان الوقت ممطرا، لكن هذا لا يمنع أن يزورونى، فرد جمال وقال: إن أخاك عبدالحميد تعبان جدا، وكان قد أصيب بإنفلونزا ورئته لا تتحمل واشتد عليه المرض.
تلتقط تحية الخيط من جمال، تقول: «قمت مسرعة، وقلت: فلأذهب لزيارته حالا، وبدأت أستعد للخروج فقال لى جمال: إنك تعلمين أن كل واحد يعيش ما كتبه له الله من العمر، فقلت على الفور: يعنى معناها إنه مات؟ فقال: نعم.. من يوم رجوعك من المستشفى، وقد أخبرونى فى الصباح، وذهبت هناك إلى منزله ومكثت طول اليوم، فعرفت أنه لم يكن فى عزومة وأنه رجع البيت، حتى لا ألاحظ شيئا وأتناول غدائى، كان وقع الخبر على شديدا وبكيت كثيرا، وعلمت أنه شدد على عسكرى المراسلة أن يخبر الزوار الذين يحضرون لتعزيتى بأنى لا أعلم بوفاة شقيقى».
تذكرت تحية أن عبدالناصر خلال هذه الأيام لم يفتح الراديو أبدا، وكانت هى التى تفتحه وتسمع الموسيقى، واستعرضت كل ما دار بينهما وبدأت تفهمه، أخفى عبدالناصر الجرائد حتى لا تقرأ تحية الخبر، كانت مشغولة بخالد، لكنها أشارت فى مذكراتها: «لم يترك أخى شيئا من ثروته الكبيرة، إذ ضاعت كلها فى المضاربات فى البورصة، وتقلبات الأسعار فى الفترة التى تلت انتهاء الحرب».
أقول إنه يمكن أن نلتمس لجمال العذر فى إخفاء خبر وفاة شقيق تحية عنها، لكن جمال كان يخفى ما هو أكثر، والحادثة وقعت بعد الثورة، تقول تحية: «الوقت سنة ١٩٥٣ شهر مايو، كان جمال يشعر بألم فى بطنه، لم أعلم به إلا بعد مدة، لعدم وجوده فى البيت أغلب الوقت، فى يوم قبل خروجه فى الصباح قال لى: سأحضر على الغداء وأريد أكلا خفيفا من الخضار المسلوق، لأنى أشعر بألم بسيط فى بطنى، جهزت الأكل كطلبه وحان وقت الغداء ولم يحضر، وبعد أن انتظرته تناولت الغداء، وقلت إنه مشغول ولم يجد وقتا للحضور، حضر عبدالحكيم عامر وطلب مقابلتى، وقال لى: جمال الحمد لله بخير وفاق من البنج، بعد إجراء عملية المصران الأعور له، ويسأل عنك ويريدك أن تذهبى له فى المستشفى الآن».
اندهشت تحية - كما تقول - وقالت لعبدالحكيم: كيف أجريت له عملية ولم يقل لى، وتقول تحية: «ذهبت إليه فى مستشفى الدكتور مظهر عاشور الضابط بالجيش، قلت له: كيف تجرى عملية ولم أعرف؟ قال: لم أرد أن أزعجك، وقال: بعد أن خرجت من البيت فى الصباح حضرت للمستشفى ومعى عبدالحكيم، وكنت مرتب من أمس الحضور للمستشفى وإجراء العملية، وحتى لا تعلمى بشىء قلت لك جهزى الغداء، وابتسم وقال: الحمد لله يا تحية».
كانت هذه المرأة قوية بما يكفى، إذ يأتيها من يخبرها بأن زوجها أجرى عملية جراحية دون أن تعلم، وأنه أفاق، ثم تذهب لزيارته وكأنها غريبة عنه.. قد تكون قوية، وقد تكون فقط تحية التى عرفت دورها فى حياة عبدالناصر فالتزمت به.