رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابن البوسطجي زعيمًا.. جمال عبدالناصر يكتب: هذه هي حياتي

 جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر

أنا الابن الأكبر لأسرة مصرية من الطبقة المتوسطة الصغيرة، وقد كان أبى موظفًا فى مصلحة البريد يبلغ مرتبه الشهرى نحو ٢٠ جنيهًا، وهو مرتب يكفى بصعوبة لسد ضروريات الحياة.

ولدت فى الإسكندرية، لكن ذكرياتى الأولى تدور حول قرية الخطاطبة، وهى قرية تقع بين القاهرة والإسكندرية، حيث كان أبى يعمل وكيلا للبوسطة، وكنا دائما أسرة سعيدة يحكمها أب، ولكن القوة الحافظة فيها كانت أمى التى كنت أنا وأخوتى نتفانى فى حبها.

وكان أبى قلقا بسبب آرائى السياسية حتى فى أيام التلمذة، فقد سجن أخوه أيام الحرب العالمية الأولى بتهمة الإثارة السياسية، لذا كانت مخاوفه أن يحل بى ما حل بعمى مخاوف طبيعية، فقد كان أمله أن نحيا جميعا حياة آمنة بعيدة عن المزعجات، لكن بعد اشتراكى فى المظاهرات السياسية الأولى دخلت الميدان بكل جوارحى، وأصبحت رئيس لجنة لتنظيم المقاومة، لاسيما المقاومة الساخطة، ولقد كان ذلك منفذا لا بد منه لعواطفنا الحادة ولشعورنا بالكبت الذى يضغط على وطننا، وفى نهاية الأمر ضاق المسئولون فى المدرسة ذرعا بنشاطى، ونبهوا أبى فأرسلنى إلى القاهرة لأعيش مع عمى والتحق بمدرسة أخرى هناك.

فى سنوات التكوين شغلت اهتمامى كل الأحزاب السياسية، التى كان هدفها الأول أن ترد للشعب المصرى حريته، وقد انضممت مدة عامين إلى جماعة مصر الفتاة، ولكن تركتها بعد أن اكتشفت أنها رغم دعوتها العالمية لا تحقق شيئا واضحا، وقد فوتحت فى عدة مناسبات للانضمام للحزب الشيوعى، لكن رغم دراستى المذهب الماركسى وكتابات لينين وجدت أمامى عقبتين أساسيتين، كنت أعلم أنه لا سبيل إلى التغلب عليهما، العقبة الأولى هى أن الشيوعية فى جوهرها ملحدة، وقد كنت دائمًا مسلمًا صادقًا، أؤمن إيمانًا لا يتزعزع بوجود قوة فوق البشر؛ هى الله الذى يهيمن على كل مصائرنا، ومن المستحيل على أى إنسان أن يكون مسلمًا صادقًا وشيوعيًا صادقًا.

أما العقبة الثانية فهى أنى أدركت أن الشيوعية معناها بالضرورة سيطرة من نوع ما من الأحزاب الشيوعية العالمية، وهذا أيضًا ما كنت أرفضه رفضًا باتًا، وقد كان كفاحى وكفاح زملائى طويلًا وشاقًا لانتزاع السلطة من الطبقات الإقطاعية، ولتحطيم السيطرة الأجنبية على مصر، ولتحقق بلادنا الاستقلال الصادق، الذى كانت تحتاج إليه احتياجها إلى أنفاس الحياة، وعلى هذا فلقد كان مجرد الظل لسيطرة أجنبية أمرًا لا أستطيع أن أقبله.

وقد كانت لى اتصالات متعددة بالإخوان المسلمين، رغم أنى لم أكن قط عضوا فى هذه الجماعة، وأحسست بقوة زعيمهم، المرشد العام حسن البنا، وهنا أيضا وجدت أمامى صعوبات دينية، فقد كان فى تصرف الإخوان ضرب من التعصب الدينى، وما كنت أرضى لا بإنكار عقيدتى، ولا بأن تحكم بلادى طائفة متعصبة، لقد كنت واثقًا من أن التسامح الدينى لا بد أن يكون ركنا أساسيا من أركان المجتمع الجديد، الذى كنت أرجو أن أراه قائما فى بلادى.

وتبلورت مشروعاتى لمستقبلى بعد عقد المعاهدة المصرية الإنجليزية عام ١٩٣٦ التى نجم عنها أن حكومة الوفد أصدرت مرسوما يقضى بفتح الكلية الحربية للشبان، بصرف النظر عن طبقاتهم الاجتماعية أو ثرواتهم، وكنت أنا مع نفر من الآخرين الذين ظلوا فيما بعد رفاقا حميمين من بين أول من استطاعوا الانتفاع من هذا الوضع، فالتحقت بالجيش بعد أن كنت أدرس فى كلية الحقوق، وتخرجت بعد سنتين فى عام ١٩٣٨ فى الكلية الحربية بالعباسية برتبة ملازم ثان، وفى نفس السنة تخرج اثنان من الضباط هما: زكريا محيى الدين، ومحمد أنور السادات، اللذان اقترن اسمهما فيما بعد اقترانًا وثيقًا بقصة الثورة.
وكان الجيش المصرى حتى ذلك الوقت جيشًا غير مقاتل، وكان من مصلحة البريطانيين أن يبقوه على حاله، أما بعد ذلك فقد بدأت تدخل طبقة جديدة من الضباط، الذين كانوا ينظرون إلى مستقبلهم فى الجيش بوصفه مجرد جزء من جهاد أكبر لتحرير شعبهم، وعيّنا فى «منقباد»، وذهبنا تملؤنا المثل العليا، ولكن سرعان ما أصبنا بخيبة الأمل، فقد كان أكثر الضباط عديمى الكفاءة وفاسدين، وقد دفعت الصدمة بعض زملائى إلى حد الاستقالة، أما أنا فلم أر جدوى من الاستقالة، رغم أن سخطى كان لا يقل عن سخط الآخرين، واتجه تفكيرى بدلا من ذلك إلى إصلاح الجيش وتطهيره من الفساد، وفى عام ١٩٣٩ نقلت إلى الإسكندرية، وهناك التقيت بعبدالحكيم عامر، وكان يشاركنى ذلك الاعتقاد الراسخ فى الأعماق بضرورة الثورة والتغيير.
وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية بزمن وجيز، نقلت إلى كتيبة بريطانية تعسكر خلف خطوط القتال بالقرب من العلمين، وكان ذلك بقصد التدريب لمدة شهر، وكانت هذه أول مرة أحتك فيها احتكاكًا حقيقيًا بالبريطانيين كجنود وكأشخاص، فتركوا فى نفسى أثرًا طيبًا.
ولم يكن هناك أى تعارض بين استطاعتى أن أشعر بشعور ودى نحو عدد منهم على المستوى الشخصى، وأن أحترمهم أيضًا كجنود، وبين شعورى العميق بضرورة التخلص من السيطرة البريطانية، ومن النفوذ البريطانى بأى ثمن، فالأول كان شعورًا شخصيًا، والآخر كان مسألة مبدأ، وليس هناك علاقة بين الشعورين.
وفى هذه المرحلة رسخت فكرة الثورة فى ذهنى رسوخا تاما، أما السبيل إلى تحقيقها فكان لا يزال بحاجة إلى دراسة، وكنت يومئذ لا أزال أتحسس طريقى إلى ذلك، وكان معظم جهدى فى ذلك الوقت يتجه إلى تجميع عدد من الضباط الشبان الذين أشعر أنهم يؤمنون فى قراراتهم بمصالح الوطن، فبهذا وحده كنا نستطيع أن نتحرك حول محور واحد؛ هو خدمة هذه القضية المشتركة.
كنا بحاجة إلى شىء يجعلنا جميعًا ندرك الضرورة الملحة والحتمية فى حركتنا الثورية، فأعطانا الإنجليز ما نحتاج إليه؛ ففى ١٩٤٢ كانت بريطانيا تقاتل وظهرها للحائط، وكانت فى الصحراء الغربية الحرب تمر فى مرحلة حيوية، وكان البريطانيون مصممين على أن تقوم فى مصر حكومة تؤازرهم مؤازرة إيجابية، وذهب السفير البريطانى - «السير مايلز لامبسون» - ليقابل الملك فاروق بسراى عابدين فى القاهرة، بعد أن حاصر القصر بالدبابات البريطانية، وسلم الملك إنذارًا يخيره بين إسناد رئاسة الوزراء إلى مصطفى النحاس مع إعطائه الحق فى تشكيل مجلس وزراء متعاون مع بريطانيا، وبين الخلع، وقد سلم الملك بلا قيد ولا شرط.
كان ذلك فى ٤ فبراير سنة ١٩٤٢ (قامت القوات البريطانية بمحاصرة قصر عابدين، وأجبر السفير البريطانى فى القاهرة السير مايلز لامبسون فاروق الأول ملك مصر على التوقيع على قرار باستدعاء زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة بمفرده أو أن يتنازل عن العرش) ومنذ ذلك التاريخ لم يعد شىء كما كان أبدًا، وكنت يومئذ فى العلمين حين جاءنى هذا النبأ، ومازلت أذكر انفعالى الشديد، وقد كتبت فى تلك الليلة إلى صديق أقول: ترى ماذا نحن فاعلون بعد هذا الحادث التعيس، الذى تقبلناه بتسليمٍ قوامه الخنوع والمهانة، الحقيقة هى أن الاستعمار ليس لديه إلا وسيلة واحدة يرهبنا بها، لكن يوم يدرك الاستعمار أن المصريين مستعدون للتضحية بأنفسهم، فإنه سيتراجع كالجعجاع الجبان.
إن حوادث ٤ فبراير قد ألحقت العار بمصر، لكنها رغم ذلك ألهمتنا روحًا جديدة؛ فقد أيقظت هذه الحوادث أناسًا كثيرين من سباتهم، وعلمتهم أن هناك كرامة تستحق أن يدافع عنها الإنسان بأى ثمن.
وبالنسبة لى كان عام ١٩٤٥ أكثر من مجرد عام انتهاء الحرب، فقد شهد العام بداية حركة الضباط الأحرار، تلك الحركة التى أشعلت فيما بعد شعلة الحرية فى مصر، ومع ذلك فقد كان ينتظرنا حادث آخر، ليتحول استياؤنا وسخطنا المتزايد إلى خطة ملموسة للثورة.
وقد ركزت حتى سنة ١٩٤٨ على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور فى مصر مبلغ استيائى، والذين توافرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافى للإقدام على التغيير اللازم. وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين، نحاول أن نخرج مثلنا العليا العامة فى هدف مشترك وفى خطة مشتركة. وكانت بى رغبة عارمة للمعرفة؛ فأقبلت على الاطلاع بنهمٍ، والتهمت كتب المفكرين من أمثال: «لاسكى» و«نهرو» بل و«أنيورين بيفان».. وبدأت أفكار الاشتراكية تتكون شيئًا فشيئًا.
فى مايو ١٩٤٨ أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين، وأحسسنا جميعًا بأن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد ما اعتبرناه انتهاكًا صارخًا، لا للعدالة الدولية وحدها، ولكن للكرامة الإنسانية كذلك.
وفى دمشق كان يجرى تأليف فرقة من المتطوعين، فذهبت إلى مفتى القدس الذى كان لاجئًا يقيم فى مصر الجديدة، وعرضت عليه خدماتى وخدمات جماعتى الصغيرة؛ كمدربين لفرقة المتطوعين، وكمقاتلين معها، فأجابنى المفتى بأنه لا يستطيع أن يقبل العرض دون موافقة الحكومة المصرية، وبعد بضعة أيام رفض العرض.
تضايقت، فقد كان هذا يتيح الفرصة أمام الضباط المصريين الشبان ليثبتوا قدرتهم على العمل، وتقدمت بطلب إجازة حتى أتمكن من الانضمام إلى المتطوعين، لكن قبل أن يبت فى طلبى أمرت الحكومة المصرية الجيش رسميًا بالاشتراك فى الحرب.
وكان القرار الذى اتخذته الحكومة هو القرار الصائب، ولكن الطريقة التى نفذ بها القرار كانت كارثة.
لم يكن هناك تنسيق بين الجيوش العربية، وكان عمل القيادة على أعلى مستوى فى حكم المعدوم، تبين أن أسلحتنا فى كثير من الحالات أسلحة فاسدة، وفى أوج القتال صدرت الأوامر لسلاح المهندسين ببناء شاليه للاستجمام فى غزة للملك فاروق.
وقد بدا أن القيادة العليا كانت مهمتها شيئًا واحدًا؛ هو احتلال أوسع رقعة ممكنة من الأرض بغض النظر عن قيمتها الاستراتيجية، وبغض النظر عما إذا كانت تضعف مركزنا العام فى القدرة على إلحاق الهزيمة بالعدو خلال المعركة أم لا. وقد كنت شديد الاستياء من ضباط الفوتيلات أو محاربى المكاتب، الذين لم تكن لديهم أية فكرة عن ميادين القتال، أو عن آلام المقاتلين.
وجاءت القطرة الأخيرة التى طفح بعدها الكيل؛ حين صدرت الأوامر إلىّ بأن أقود قوة من كتيبة المشاة السادسة إلى عراق سويدان، التى كان الإسرائيليون يهاجمونها، وقبل أن أبدأ فى التحرك نشرت تحركاتنا كاملة فى صحف القاهرة، ثم كان حصار الفالوجا، الذى عشت معاركه، حيث ظلت القوات المصرية تقاوم، رغم أن القوات الإسرائيلية كانت تفوقها كثيرًا من ناحية العدد، حتى انتهت الحرب بالهدنة، التى فرضتها الأمم المتحدة.
وقد قتل القائمقام أحمد عبدالعزيز، الذى كان قائدًا للمتطوعين أثناء هذه الحملة، حين هوجمت سيارته وهو فى طريقه إلى اجتماع فى القدس، وكان أحمد عبدالعزيز يقول دائمًا: «إن المعركة الحقيقية فى مصر».
كذلك أوشكت أنا أيضًا أن أقتل فى الحرب؛ فقد جرحت مرتين، وفى المرة الثانية مرت الرصاصة بما لا يزيد على خمسة سنتيمترات تحت قلبى، وبينما كنت طريح الفراش فى المستشفى، كانت أفكار كثيرة وتأملات تمر فى خواطرى.
لقد اتضح لى عندئذ أن المعركة الحقيقية هى بالفعل فى مصر؛ فبينما كنت ورفاقى نحارب فى فلسطين، كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة، التى اشتروها رخيصة وباعوها للجيش.
ولقد كان من الضرورى تركيز الجهود لضرب أسرة محمد على؛ فكان الملك فاروق هو هدفنا الأول من نهاية ١٩٤٨ إلى ١٩٥٢، وأقمنا تنظيمنا ونسقنا نشاطنا ببطء، ونشبت فى منطقة القنال حرب عصابات لتدمير المنشآت البريطانية، وكنت أعلم أن عدم قيامنا بأية محاولة كبرى للاستيلاء على السلطة قبل أن نستعد تمامًا أمر حيوى بالنسبة لنا، وكان فى نيتى أن نحاول القيام بثورتنا فى سنة ١٩٥٥، لكن الحوادث أملت علينا قرار القيام بالثورة قبل ذلك بكثير.. ورسمت الخطة الأساسية بعد اجتماعات عقدناها فى بيوت عدد منا، وسلمتها لعبدالحكيم عامر ليضع تفاصيلها، وكنا نريد أن نبدأ فى التنفيذ بعد ٢٤ ساعة؛ أى فى ليلة ٢١ يوليو، لكن كان من المحال استكمال خطتنا على هذا الأساس، وبناء عليه أجلت ساعة الصفر إلى الساعة الواحدة صباح ٢٣ يوليو... ثم كان ما كان.