رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. حاتم الجوهري يكتب: فن تمرير الهزيمة وترويج الانسحاق أمام إسرائيل

د. حاتم الجوهري
د. حاتم الجوهري

عاد يوسف زيدان لممارسة أبرع أدواره مجددًا، وتنقل مع الإعلامى عمرو أديب من مجرد التشكيك والتفكيك، إلى الفعل وبناء النموذج المعرفى الصهيونى، وتقديم رواية تاريخية كاملة مضادة للرواية العربية، ومضادة لاختيارات مستودع الهوية الخاص بها.
يستهدف إعادة كتابة تاريخ المنطقة العربية لخدمة الصهيونية و«شرعنة» احتلال فسلطين
يستهدف «زيدان» من ذلك إعادة كتابة تاريخ المنطقة العربية والصلات القديمة بين اليهود والعرب، بما يصب فى صالح دعم الصهيونية وشرعنة الاحتلال الصهيونى لأرض فلسطين العربية، ويبرر لخضوع الذات العربية للهيمنة الصهيونية والغربية.
وخلافًا للعادة، قدم «زيدان» هذه المرة مسرحية متكاملة الفصول، ولم يقدم تكتيكه القديم فى التشكيك فى واقعةٍ ما لنفى روايةٍ تاريخية ما، بل انتقل (ومن يفتح له المنابر العامة) للمرحلة التالية وهى بناء الرواية المضادة، انتقل للهجوم والمبادرة بعد أن مَهّد ومُهِّد له فى الفترة السابقة.
«زيدان» يقول الآن ويقدم مسوغات الانهزام الحضارى أمام الصهيونية باسم العلم وتقبل الآخر ووجهة النظر البديلة والأبنية الفرعية والهامشية للثقافة، وما إلى ذلك من مداخل معرفية ناعمة تدعى البراءة ومواجهة خطاب الكراهية والرواية الرسمية العربية السائدة، فى حين أنه ليس إلا أحد وجوه «الاستلاب» للآخر، ومجرد بوق يقدمه من يمهدون لبشائر الهزيمة والانسحاق أمام الآخر «الغربى- الصهيونى».
ولكى ينجح «زيدان» فى تقديم رواية كاملة هذه المرة، وينتقل لمرحلة الهجوم وبناء الوعى المضاد بعد مرحلة التشكيك فيما سبق، كان عليه أن يجتزئ ويقدم قصاصات من الحقيقة، ثم يعيد تجميعها ليقدم لنا مبررات التفوق الصهيونى علينا، ويخترع خلفيته التاريخية والدينية.
لذا سأنتقل من خطاب التحليل إلى خطاب المواجهة، فلم ييأس «زيدان» ولم يخجل مما يصنع، ولسنا أولاد أمهاتنا ولا نستحق الدماء، التى سالت على أرضنا والأجساد، التى رممت جدرانا وصلبت عودها، فى حلم نهضة مصر وثورتها، إن لم نواجهه.
يسوّق «زيدان» عدة حقائق مجتزأة من التاريخ لتمرير الهزيمة والانسحاق أمام الصهيونية والغرب منها ما هو تاريخى، ومنها ما هو سياسى، وهو عادة ما يوظّف التاريخى لينطلق منه للسياسى والواقعى، ويبرّر ويقدّم مسوغات الهزيمة السياسية أمام «الصهيونية- الغرب».
ومن المجتزآت التى يسوقها لتبرير تفوق الصهاينة وانهزام الذات العربية ما يلى:
١- بخصوص «العربية القديمة» أم «السامية»، يقول «زيدان» إن اللغة العبرية دُوِّنت قبل العربية، وإن العربية هى مكسور السريانية «الآرامية»، لذا حان وقت ردعه علميًا واتهامه مباشرة بالاجتزاء وترويج الخطاب الصهيونى التاريخى والدينى.
فـ«زيدان» يقدم روايته لتاريخ لغات المنطقة العربية فى سياق توراتى يهودى بحت، وهو السياق، الذى يُسمى بلغات منطقة بلاد الرافدين «العراق» والشام «سوريا ولبنان وفلسطين والأردن» وشبه الجزيرة العربية «السعودية واليمن وكافة الإمارات والسلطنات بشبه الجزيرة والخليج» ويسميها بـ«اللغات السامية»، وهو مصطلح قال به علماء العهد القديم والمستشرقون الغربيون.
فى حين أن هناك قراءة أخرى يخفيها «زيدان» أو لا يعلمها كغير متخصص، تقول بتسمية تلك اللغات بـ«اللغات العربية القديمة»، وليس بمصطلح «اللغات السامية»، الذى ينتمى للرواية التوراتية اليهودية والغربية.
المنطق هنا أن جميع قبائل شبه الجزيرة والشام والعراق كانت تنتمى للعرق العربى فى عمودها الصلب، وكان التعدد اللغوى وظهور اللغات واشتقاقها يعود لظروف الهجرات المتوالية من الجنوب، حيث موجات القحط فى شبه الجزيرة، إلى الشمال فى العراق والشام، حيث الماء والعشب، ومن هنا كانت التسمية الأدق هى «اللغات العربية القديمة»، نسبة للعرب، وليست التسمية التوراتية نسبة لسام بن نوح (عليه السلام).
فحين هاجر النبى إبراهيم من بلاد العراق القديمة، واستقر بزوجته سارة فى أرض الشام بمنطقة كنعان (فلسطين حاليًا) وبعدما أنجبت السيدة سارة إسحاق (عليه السلام) ومن بعده النبى يعقوب (إسرائيل) تحدث هؤلاء بلغة القوم، الذين عاشوا بينهم، وهى اللغة الكنعانية، لغة القبائل العربية، التى هاجرت قديمًا من الجزيرة، واستقرت فى منطقة الشام.
ولم تكتسب اللهجة الكنعانية لأحفاد إسحاق سماتها اللغوية المستقلة، التى جعلتها تتميز عن الكنعانية الأم إلا فى مصر، عندما جاء يعقوب ومعه عشيرته كلها فى عهد النبى يوسف، حيث كان انعزالهم الجغرافى عن موطن الكنعانية واحتكاكهم باللغة المصرية القديمة هما أبرز عوامل تطور اللهجة الكنعانية لآل يعقوب (بنى إسرائيل) واستقلاهم عن الكنعانية الأم، وتبين ذلك حينما خرج بنو إسرائيل مع النبى موسى واحتلوا أرض كنعان كقوة سياسية ودينية لها لغتها الخاصة، التى سميت بالعبرية.
والمعروف أيضًا أن العبرية تعرضت بعد ذلك لتأثير الآرامية، وهى واحدة من اللغات العربية القديمة، التى سادت فى منطقة ما بين الشام والعراق، وكذلك تأثرت فيما بعد، أثناء سبى اليهود فى العراق القديمة، بإحدى اللغات العربية القديمة، التى كانت سائدة هناك وكانت تسمى الأكدية (بفرعيها الآشورى والبابلى).
ويقول «زيدان» إن العبرية دُوّنت قبل العربية «الحالية»، وإنها من أولى اللغات تدوينًا، وفى ذلك جملة مغالطات، هى:
- أن أول أبجدية فى العالم كانت أبجدية عربية، اخترعها الشعب الفينيقى «اللبنانى حاليًا»، وهو أحد البطون العربية، التى استقرت قديمًا فى منطقة الساحل ببلاد الشام، وعنها تطورت معظم الأبجديات العربية فيما بعد فى الآرامية والعبرية والعربية وغيرها، حتى إن معظم أبجديات العالم تدين للأبجدية العربية الفينيقية بذلك، والخط الذى دُوِّنت به العبرية يعود للأبجدية العربية الفينيقية ثم طور الآراميون العرب خطًا خاصًا بهم استخدمته العبرية بعد ذلك.
فكيف يقول زيدان إن العبرية لها الأسبقية، فى حين هى كتبت بالفينيقية العربية وبالآرامية العربية؟! ولم تكن حصيلتها اللغوية كذلك إلا استعارة من المصرية القديمة والآرامية والأكدية!.
- «زيدان» كغير متخصص فى التطور اللغوى وفهم آليته وبنيته، لم يتطرق للفصل بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، فتدوين العربية الفصحى الحالية استعار الكثير من الخط الآرامى والأبجدية الفينيقية، كما فعلت العبرية، كما أن له صلة أكثر بالقلم النبطى، الذى ساد أيضًا فى منطقة جنوب الشام والعراق.
- لذا فمقولة زيدان إن العربية هى مكسور الآرامية فى غير سياقها وبلا فهم كافٍ، كما أن التداخل اللغوى بين مفردات اللغات العربية القديمة لا يمكن تقديمه كما فعل زيدان، لصالح الانتصار للعبرية والصهيونية فى تبجح ومغالطة شديدة.

اعتبر تسامح صلاح الدين ذريعة للعدوان على الحق العربى.. وساوى الصهيونية بـ«اليهودية»
٢- ينتقل «زيدان» إلى جزء آخر فى روايته الجديدة لتأصيل ادعاءات الصهيونية وتبريراتها العنصرية، فيقول إن صلاح الدين، الذى سبق أن هاجمه سابقًا، هو الذى أدخل اليهود إلى القدس! ولا أعرف كيف تواتيه الجرأة ليعتبر فعل الجميل والتسامح ذريعة ومبررًا لعدوان الصهاينة على الحق العربى، واعتبار القدس عاصمة صهيونية للجماعات الأوروبية من اليهود التى احتلت فلسطين.
هو يحاول نزع الصهيونية من سياقها الغربى كأحد تمثلاته الاستعمارية، التى ادعت التفوق العنصرى، ويحاول رصف المسافة بين الصهيونية كحركة سياسية ضمن السياق الغربى، لبها وهدفها الأساسى هو كبح جماح المشروع العربى وإدخاله فى سرداب التناقضات الدينية التاريخية بينها وبين اليهود الفقراء القادمين من أوروبا والمضطهدين هناك.
٣- تفوق زيدان على دعاة الصهيونية الدينية ذاتها، معتبرًا أن الصهيونية لا تختلف عن اليهودية شيئًا! وهو هنا يتفوق على دعاة «معاداة السامية»، الذين يعتبرون أن من يعادى الصهيونية يعادى السامية والأفراد المنتمين للديانة اليهودية، وهو هنا يجعل من يعادى الصهيونية ويرفضها من العرب معاديًا للديانة اليهودية ذاتها، وبالتالى يتفوق على دعاة الصهيونية الدينية من اليهود أنفسهم، ولا أعلم أيضًا من أين واتته الجرأة ليقول ذلك.
انتشر اليهود بعد شتاتهم الأكبر على يد الرومان وتخريب الهيكل اليهودى فى القدس، فى معظم بقاع العالم القديم، ووصلوا إلى شبه الجزيرة العربية، وحين بُعث نبى العرب وآخر الأنبياء محمد (عليه السلام) عاصروه وجرت بينهم الوقائع المعروفة فى التاريخ، ولا دلالة لها هنا سوى الخلط والفهم المعكوس للأشياء.
إلا أن فضل الحضارة العربية الإسلامية الأكبر على يهود العالم يعود لفترة الأندلس، حينما، وللمرة الأولى بعد الشتات الرومانى، سمحت لليهود فى أوروبا بأن يتحولوا إلى جماعة ذات سمات قومية مرة أخرى، ونهل يهود أوروبا من المعين العربى لغويًا وأدبيًا وحضاريًا، وبعدها حاولوا تكرار النموذج الأندلسى فى كافة بلدان أوروبا ولم ينجحوا.
بل فى حقيقة الأمر قد يكون «النموذج الأندلسى» هو سبب الاضطهاد الأوروبى الشهير ليهود أوروبا فى العصور الوسطى، وظهور ما سمى ظاهرة العداء لليهود التى عرفت بـ«معاداة السامية»، فقد حاول يهود أوروبا إعادة إنتاج تفوقهم فى ظل النموذج الأندلسى فى كافة بلدان أوروبا على المستويين السياسى والاقتصادى.
إلا أن محاولات تحويل يهود البلدان الأوروبية إلى قوة لها سمات خاصة قُوبلت بعنف شديد من أوروبا المسيحية، وظل حلم «النموذج الأندلسى» يطارد يهود أوروبا، وكان ردهم للجميل صادمًا عندما تحالفوا مع أوروبا لإعادة إنتاج النموذج اليهودى الأندلسى مرة أخرى باحتلال الأرض العربية فى فلسطين.. هكذا كان رد الجميل والتسامح العربى يا زيدان.
ويظل السؤال قائمًا: لماذا نتحدث عن العلاقات الطيبة فى ظل تحول الآخر الصهيونى الغربى إلى موقع الهيمنة والقهر الوجودى للعرب والفلسطينيين؟ ما هذا السياق المشبوه والاجتزاء وقلب الحقائق لتبرير الانسحاق وتقديم الخطاب المعرفى أو الظهير المعرفى، لحقبة سياسية متخيلة من الهزيمة والذل والهوان؟.
أعتقد أن زيدان يقدم نفسه كعرّاب مُحتمل لحقبة سياسية متخيلة، كعراب محتمل لحقبة الهزيمة والانسحاق العربى، وهذا قد يكون هو التفسير الوحيد لظهوره وفتح المنابر الإعلامية أمامه، لكن وبمنطق الفعل ورد الفعل سيكون فتح المنبر لزيدان دافعًا لتشكل واحدة من موجات الثورة العربية الكبرى، التى انطلقت فى القرن الحادى والعشرين، وسيكون مصير زيدان وأشباهه من دعاة الذاتية والبحث عن الصعود الاجتماعى، ولو على حساب الجماعة العربية ومسلماتها، هو مصير كل الانتهازيين عبر التاريخ.
زيدان لن يكون عرّابًا لحقبة سياسية قادمة من الهزيمة والاستلاب، زيدان سيكون هو مسيخها الدجال، وروايته ستكون هى الفتنة وغواية ما قبل نهضة الذات العربية وميلادها الجديد، فعادة ما يسبق المخاض ذلك الطلق الزائف.
الصهيونية لا تريد التعايش، الصهيونية تريد الهيمنة ولا تريد السلام، فواهمٌ من يعتقد أن الصهيونية ودولتها ستكون جنة على الأرض العربية، وواهم من يظن أنه سيصبح عرَّابا لخطاب الانسحاق والهزيمة، وواهم من يفتح المنابر له، معتقدًا أنه سيشكل بخطاب زيدان أرضية وجمهورًا للهزيمة، لكن يظل السؤال حاضرًا: لماذا تفتح المنابر لزيدان ولا تفتح لسواه؟ ولماذا تفتح المنابر لداعاة الاستلاب وهزيمة الذات العربية، ولا تفتح لدعاة الأمل ونهضة الذات العربية؟
لكن سيبقى الأمل حاضرًا، وستنتصر الذات العربية، وإن كَمِنتْ فى الزمن وتداولت حلمها سرًا، ليأتى المخاض عاصفا وهادرًا، على عكس من يبشرون بخطاب الهزيمة والانسحاق ومن وراءهم، وعلى عكس من يظنون فى أنفسهم عرابين للهزيمة والخراب والانسلاخ عن الذات ومستودع هويتها.