رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخشية من الله « 2-3»


ما أجمل أن يكون الإنسان خاشيًا لله تعالى، ظاهرًا أمام الناس، وباطنًا حيث لا يراه أحد إلا رب العالمين. وهل يكون ذلك استجابة لأمر الله تعالى: «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ»؟.. والخشية هنا تفيد معنى الخوف، إلا أنها أشدّ منه؛ لأنها الخوف مع تعظيم أو هى الخوف الذى يشوبه تعظيم للمخوف والمخيف منه.
ونلاحظ أن القرآن الكريم حينما يستعمل كلمة «الخشية» و«الخوف» يفرّق تفريقًا عجيبًا دقيقًا بين المعانى المذكورة.. وقال سبحانه فى سورة (الحشر): «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)»... وقال الله سبحانه وتعالى فى سورة (البقرة): «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)».. ونرى فى الآيتين استخدام القرآن كلمة «الخشية» ولم يستعمل كلمة «الخوف»؛ لأنّ الجمادات، وهى هنا «الحجارة» و«الجبل»، غير مجبولة على الخوف، بمعنى توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، إنما هى طوع أمر الخالق، لذلك استعملت هنا كلمة «الخشية» للدلالة على معنى التعظيم المفيد للطواعية دون معنى توقع المكروه المظنون أو المعلوم المخصوص بالإنسان والحيوان. علاوة على هذا فإن الخوف لا يعنى التعظيم بخلاف الخشية، فالخوف قد يكون مما يعظّم وقد يكون مما لا يعظّم.
ففى تفسير السعدى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».. ولما بين تعالى لعباده ما بين، وأمرهم ونهاهم فى كتابه العزيز، كان هذا موجبًا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه، ولو كانوا فى القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسى، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله أى: لكمال تأثيره فى القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهى من أسهل شىء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد.
ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده فى كتابه الحلال والحرام، لأجل أن يتفكروا فى آياته ويتدبروها، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر فى القرآن والتدبر لمعانيه.. أما فى تفسير البغوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».
قوله- عز وجل-: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله) قيل: لو جعل فى الجبل تمييزًا وأنزل عليه القرآن لخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صلابته ورزانته حذرًا من ألا يؤدى حق الله- عز وجل- فى تعظيم القرآن، والكافر الذى يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها يصفه بقساوة القلب (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون).. وكذلك نقرأ فى كتاب الميزان فى تفسير القرآن معنى قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، فى المجمع: التصدع التفرق بعد التلاؤم ومثله التفطر انتهى.
والكلام مسوق سوق المثل مبنى على التخييل، والدليل عليه قوله فى ذيل الآية: {وتلك الأمثال نضربها للناس}.. والمراد تعظيم أمر القرآن بما يشتمل عليه من حقائق المعارف وأُصول الشرائع والعبر والمواعظ والوعد والوعيد، وهو كلام الله العظيم، والمعنى: لو كان الجبل مما يجوز أن ينزل عليه القرآن فأنزلناه عليه لرأيته- مع ما فيه من الغلظة والقسوة وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل- متأثرًا متفرقًا من خشية الله، فإذا كان هذا حال الجبل بما هو عليه، فالإنسان أحق بأن يخشع لله إذا تلاه أو تُلى عليه، وما أعجب حال أهل المشاقة والعناد لا تلين قلوبهم له ولا يخشعون ولا يخشون.. والالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة فى قوله: {من خشية الله} للدلالة على علة الحكم، فإنما يخشع ويتصدع الجبل بنزول القرآن لأنه كلام الله، عز اسمه.
وقوله: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} من وضع الحكم الكلى موضع الجزئى للدلالة على أن الحكم ليس ببدع فى مورده، بل جارٍ سارٍ فى موارد أخرى كثيرة.. فقوله: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل...}، مثل ضربه الله للناس فى أمر القرآن لتقريب عظمته وجلالة قدره بما أنه كلام لله تعالى وبما يشتمل عليه من المعارف رجاء أن يتفكر فيه الناس فيتلقوا القرآن بما يليق به من التلقى ويتحققوا بما فيه من الحق الصريح ويهتدوا إلى ما يهدى إليه من طريق العبودية التى لا طريق إلى كمالهم وسعادتهم وراءها، ومن ذلك ما ذكر فى الآيات السابقة من المراقبة والمحاسبة.
وفى المقال القادم- بإذن الله تعالى- نذكر تفسير معنى قوله تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ». وللحديث صلة وبالله التوفيق.