رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ريجينى كمان.. وكمان!


من جديد، عادت جريدة الـ«جارديان» البريطانية إلى تسليط الضوء على قضية جوليو ريجيني، الباحث الإيطالي، طالب الدكتوراه بجامعة «كامبريدج»، الذي لقي مصرعه في مصر، قبل سنتين تقريبًا. وسبب عودة الجريدة، هذه المرة، هو استجابة الجامعة البريطانية «العريقة» وموافقتها، أخيرًا وبعد مماطلات متكررة، على التعاون مع جهات التحقيق الإيطالية!.

التقرير الذي كتبه ستيفاني كيرشجايسنر من روما وروث ميشيلسون من القاهرة، وصف مماطلة الجامعة وعدم استجابتها لمطالبات المحققين الرسمية، طوال سنتين، بأنه صار أمرًا مثيرًا لكثير من الجدل. ولم يخل التقرير طبعًا، لأسباب صارت مفهومة، من غمز ولمز واتهامات صرحية وأخرى ضمنية للسلطات المصرية أو جهاز الأمن المصري. كما لم يفت الجريدة، التي صارت تحت مستوى الشبهات، أن تنقل عن «بعض الأشخاص»، وصفتهم بأنهم «على دراية بهذه القضية»، تشككهم في أن الحكومة الإيطالية تسعى إلى تحويل التركيز بعيدًا عن مصر وتوجهه إلى الجامعة البريطانية لأسباب سياسية!.

المحققون الإيطاليون المحبطون، كما يزعم التقرير، من مماطلة السلطات المصرية، يعانون أيضًا في الحصول على إجابات عن أسئلتهم في بريطانيا، وهي أسئلة من عينة: هل تم دفع ريجيني إلى متابعة بحثه عن الحركة العمالية في مصر بشكل يتجاوز مستوى ارتياحه الشخصي في إنجازه؟.. وهل كان على جامعة كامبردج أن تفعل المزيد لضمان سلامة الباحث الذي كان في الـ ٢٨ من عمره؟. وأشار التقرير إلى أن الأستاذة المصرية، مها عبدالرحمن، التي كانت مشرفة على بحث «ريجيني»، كانت هدفًا لتقارير وسائل إعلام إيطالية اتهمتها بأنها ترفض عن عمد مطالب تقديم أي معلومات أو الإجابة على أي أسئلة. مع أن الجريد نفسها أقرت بأن الأستاذة رفضت عدة مرات إجراء مقابلات، أو حتى الرد على الأسئلة التي سألتها لها الشرطة الإيطالية عبر البريد الإلكتروني. وأقرت الجريدة أيضًا بأنها طلبت من الجامعة التعليق على القضية، وقبل طبها بالرفض!.

من تقرير الـ«جارديان» عرفنا أن مها عبدالرحمن ستواجه المحققين الإيطاليين هذا الشهر، في بريطانيا، وأنها أبدت، مشكورة، موافقتها على الإجابة عن أسئلتهم. ونقلت الجريدة عن مصادر دبلوماسية، أن تلك الخطوة تمثل تقدمًا كبيرًا، وأنها تأتي نتيجة اجتماع مشترك، في ديسمبر الماضي، بين أنجيلينو ألفانو، وزير الخارجية الإيطالي، وبوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني. وكانت مطالب المحققين الإيطاليين تواجه بالرفض أو بالمماطلة بدعاوى حماية حرية البحث الأكاديمي. ووصل الأمر حد قيام السير ليزيك بوريسيويتز، نائب رئيس كامبريدج، بتوجيه رسالة إلى «جونسون» يعرب فيها عن استياء الجامعة من خضوعها للتحقيق والاستجواب.

موافقة مها محفوظ عبدالرحمن (وهي غير مها عبدالرحمن عزام) على المثول أمام المحققين سبقتها، كما أشرنا، مطالبات رسمية متكررة من السلطات القضائية الإيطالية إلى لسلطات البريطانية، كان آخرها في أكتوبر الماضي. وفي ٢ نوفمبر الماضي، نشرت جريدة «لا ريبابليكا» الإيطالية تقريرًا عنوانه «أكاذيب كامبريدج»، كشفت فيه عن أن المدّعي العام في روما، أراد توضيحات حول العديد من جوانب القضية، منها كيفية اختيار «ريجيني» لموضوع بحثه عن الباعة الجائلين، وعن الطريقة التي استخدمها في بحثه الأكاديمي، ونوعية الأسئلة التي طرحها على الباعة الجائلين والتجار، وعما إذا كان قد أعطى نتائج أبحاثه إلى أستاذته (مها عبدالرحمن) خلال لقائه بها في القاهرة يوم ٧ يناير ٢٠١٦، أم لا.

في اليوم نفسه، يوم ٢ نوفمبر ٢٠١٧، نقلت وكالة «أنسا» الإيطالية عن مصادر أن المحققين الإيطاليين طلبوا من السلطات القضائية البريطانية استجواب جميع الطلاب الذين أشرفت مها عبدالرحمن على رسائلهم وتم إرسالها إلى القاهرة في الفترة من ٢٠١٢ إلى ٢٠١٥، وحقيقة الأبحاث التي كانوا يجرونها هناك، وطبيعة دور المشرفة على تلك الرسائل، والطلبات أو الأوامر أو التكليفات التي وجهتها لهم عندما كانوا في مصر. وذكرت الوكالة أن المدّعي العام الإيطالي طلب أيضًا الحصول على تسجيلات تليفونية لمها عبدالرحمن، المحمول والأرضي، ومحتويات بريدها الإلكتروني، في الفترة من يناير ٢٠١٥ إلى ٢٨ فبراير ٢٠١٦.

إلى أن نعرف ما ستنتهي إليه التحقيقات مع أستاذة كامبريدج، أو مع غيرها، وغالبًا لن نعرف شيئًا، لا مانع من أن نتسلّى معًا بخبر تم نشره قبل أسبوعين تقريبًا، عن إلقاء السلطات الروسية القبض على باحث أوروبي متخصص في العلوم الاجتماعية، على خلفية اتهامه بالتجسس. وما دام الشيء بالشيء يُذكر، نشير إلى أن الدراسات الاجتماعية قد تكون مدخلًا لاختراق المجتمعات لأهداف مخابراتية، وكثير ما اتضح أن هناك شبكات تجسس تقوم بإجراء بحوث اجتماعية لتتمكن من دراسة فئات بعينها أو رصد أحوال اجتماعية وسلوكيات عامة للأفراد، لاستخدامها في الاختراق أو في محاولة السيطرة. ولاحظ مثلًا أن شبكة التجسس، التي أعلنت عنها السعودية في ٢٠ مارس ٢٠١٣، كان بين أعضائها الـ١٨ أستاذًا بكلية التربية بإحدى جامعات الرياض، شارك في إعداد التقرير الوطني عن التعليم العالي السعودي!.

يعيدنا ذلك إلى كتاب «مدارس التجسس: كيف تمكنت الـCIA، الـFBI والمخابرات الأجنبية من استغلال الجامعات الأمريكية سرًا»، الصادر في ١٠ أكتوبر الماضي، والذي كشف فيه دانيال جولدن، Daniel Golden، وفضح كيف تحولت جامعات الولايات المتحدة ومراكزها البحثية ومعاهدها العلمية إلى خط أمامي للتجسس المحلي والدولي، وكيف صارت تحت سيطرة المخابرات المركزية الأمريكية، «CIA»، ومكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية، «FBI». وكنت توقفت عند هذا الكتاب وقلت إن المجال مفتوح لكل المقاربات والقياسات والاستنتاجات التي قد تخطر على بالك، أو على بال أيّ واحد صاحبك!.