رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا بطرس الجاولى والوطنية الصادقة


كثير من بطاركة الكنيسة القبطية يتمتعون بحس وطنى عالٍ دون رياء أو نفاق أو تملق، ومنهم البطريرك ١٠٩ من بطاركة الكنيسة القبطية، البابا بطرس السابع المُلقب بالبابا «بطرس الجاولى»، لأنه من مدينة «الجاولية» مركز منفلوط. جلس على كرسى البطريركية فى الفترة (١٨٠٩ – ١٨٥٢م)، اتصف بالتقوى والورع والتقشف والزهد، قليل الكلام مع هيبة ووقار، يقضى يومه منكبًا على المطالعة، أو مواظبًا على الصلاة من أجل سلام الكنيسة، لأنه كان راهبًا حقيقيًا وليس شكليًا.
ويروى أحد المقربين إليه أنه احتاج إليه فى أمر فدخل عليه حجرته فوجده يصلى والدموع ملء عينيه وليس عليه من الملابس إلا ما يستره، ومن هنا أمر تلميذه بألا يدخل عليه أحد وهو منفرد. لم يكن يهتم بما يأكل أو يشرب، ولم يكن يلبس سوى الخشن من الصوف، ولا ينام إلا على الأرض فى الصيف وعلى دكة خشب فى الشتاء. كان لا يتعرض إلى أمر من أمور السياسة، ولا يخرج من دار البطريركية إلا إذا دعته الحاجة، وإذا تكلم كان صوته منخفضا ولا ينظر إلى وجه سامعه. كان منذ أن كان راهبا محبا للدراسة ومطالعة الكتب على اختلاف أنواعها، فلما تولى مقاليد الرياسة لم يكن للدار البطريركية مكتبة بالمعنى المعروف، نظرًا لما تعرضت له الكنيسة فى الأزمنة السالفة من نهب وتخريب، فأخذ يجمع المراجع التاريخية والكتب الكنسية من جهات متفرقة، حتى حصل منها على مجموعة ثمينة، كان من بينها عدد من المخطوطات النادرة التى لا تقدر بمال، ولما ازداد عدد هذه المجلدات النفيسة أعد لها مكانًا فى المقر البابوى يتناسب مع قيمتها، وأخذ بنفسه يرتبها، ووضع لها سجلًا خاصًا. كما كلف عددا من مشاهير النُسَّاخ بنسخ الكتب الفريدة التى جاء بأصولها من دير القديس الأنبا أنطونيوس ومن الكنائس الأثرية فى القاهرة.
أضاف هذا البابا إلى صفاته هذه صفة الحلم فى الرئاسة والحكمة فى التصرف والقدوة فى الكلام، فأصبح موضع احترام لدى الكل، كما شغل الأقباط فى عهده العديد من المناصب الإدارية الرفيعة، وإقامة شعائرهم الدينية وباشروا عبادتهم فى حرية. حارب السيمونية «أى الرسامات فى الدرجات الكنسية نظير دفع مبلغ من المال!!»، ورسم كثيرًا من الأساقفة والكهنة، وفى مدته تجدد كثير من الكنائس فى الوجهين البحرى والقبلى، وأقام مطرانين للحبشة.
لما كان «محمد على» موفقًا فى الفتوحات، شرقًا وغربًا، خشيت الدول الأجنبية من هذا، ومنها روسيا، التى قدرت سوء الموقف لو استمر فى فتوحاته، ففكرت أن تستعين بالأقباط فى الوصول إلى أهدافها ضد محمد على، فأرسلت أميرًا روسيًا يعرض على البطريرك قبول حماية قيصر الروس للأقباط. فذهب هذا المندوب الروسى إلى الدار البطريركية، ظنا منه أنه سيرى رئيس أكبر أمة مسيحية فى إفريقيا بحالة تدل على عظمة، وكانت أخبار هذه الزيارة قد وردت إلى البابا من قبل ولكنه لم يهتم، ولما وصله المندوب الروسى رأى إنسانًا بسيطًا يحمل الكتاب المقدس بين يديه يقرأ فيه وهو يرتدى جلبابًا خشنًا جالسًا على دكة خشبية وحوله مقاعد مبعثرة، ولم يبال به فسأله فى شك: «هل أنت البطريرك»؟!، فلما عرف منه طلب إليه أن يجلس بجواره، فأخذ المندوب يتفرس فيه، وهو لا يصدق أنه يجالس البطريرك، وبدأ المندوب يسأله لماذا يعيش بهذه البساطة، ولا يهتم بمركزه فى العالم المسيحى فأجابه البابا: «ليس الخادم أفضل من سيده، فأنا عبد السيد المسيح الذى عاش مع الفقراء ولأجلهم، وكان يجالس الخطاة ولم يكن له ابن يسند رأسه، أما أنا فلى مكان أقيم فيه وأحتمى فيه من حر الصيف وبرد الشتاء. لم يكن للسيد المسيح مخزن فيه مئونة، وها أنا آكل وأتمتع فهل هناك أفضل من هذا؟».. وبعد تعجب من المندوب، بدأ يعرض على البابا فى بساطة طلب الحماية الذى جاء لأجله، فسأله البابا الحكيم: «وهل ملككم يحيا إلى الأبد؟» قال له الأمير: «لا يا سيدى البابا بل هو إنسان يموت كما يموت سائر البشر». فأجابه البابا: «إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت وأما نحن فتحت رعاية ملك لا يموت وهو الله»، وهنا لم يضف البابا الحكيم أى حماية تأتى الأقباط من محمد على أو من أى شخص بشرى آخر. حينئذ لم يسع المندوب الروسى إلا أن ترك البابا وهو يشعر بعظمة هذا الرجل البسيط، وقال: «لم تدهشنى عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات، ولم يهزنى كل ما فى هذا القطر من العجائب بقدر ما هزنى ما رأيته فى هذا البطريرك القبطى». ولما وصل نبأ هذه المقابلة إلى مسامع محمد على سُر جدًا وذهب إليه ليهنئه على موقفه وما أبداه من الوطنية الحقة، فقاله له البابا الوقور: «لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاده». فقال له محمد على: «لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك، فليكن لك مقام محمد على فى مصر، ولتكن مركبة معدة لركبك كمركبته».