رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مرة أخرى.. التهنئة بأعياد الميلاد


أنتهز هذه الفرصة المناسبة والسنوية بتهنئة مصر والمصريين المسيحيين والمسلمين بذكرى أعياد الميلاد المجيد. ونحن عندما نتذكر ميلاد المسيح عيسى، عليه السلام، فإننا كما يقول العلماء الثقات نطل من خلال ذلك على القيم الرسالية الكبرى التى بشر بها وعمل على نشرها سيدنا عيسى، عليه السلام. وهذه القيم الرسالية الكبرى إنما هى فى جوهرها قيم الإسلام نفسه.
الاحتفال بسيدنا عيسى، عليه السلام، كالاحتفال بمولد سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم. وإن كان السلفيون فى معظمهم يعتبرون ذلك من البدع. ونحن نرى أن هذه الاحتفالات إنما هى تجديد للقيم العظيمة التى جاء بها الأنبياء جميعًا، عليهم السلام، وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ويسرنى أن أقدم التهنئة، خصوصًا اليوم، لإخواننا المسيحيين فى مصر وفى العالم أجمع.. فتاوى شيوخ حزب النور والمتسلفين المتشددين، خصوصًا الشيخ ياسر برهامى، نائب رئيس الدعوة السلفية، تؤكد مرارًا وتكرارًا «أن التهنئة بالأعياد المرتبطة بالعقيدة هذا شر من شرب الخمر وفعل المنكرات، فالملتحون الذين يهنئون الأقباط ليسوا من السلفية، فليس كل شخص ملتحٍ يُحمَل على الدعوة السلفية، فنحن لا نهنئ الأقباط».
وهذا يدل على أن موقف السلفيين- فى العموم- واحد «بأنه لا يجوز تهنئة الأقباط بأعيادهم الدينية، لأن ذلك مخالف للشريعة». إلا قليلًا من بعض السلفيين المنفتحين الذين يهنئون الأقباط بأعيادهم. هذا موقف.. والموقف الآخر، تهنئة الإمام الأكبر شيخ الأزهر شخصيًا وسماحة المفتى للبابا تواضروس والكنيسة بأعياد الميلاد، ولا يرون فى ذلك مخالفة للشريعة.
أثار موقف حزب النور والمتسلفين المتشددين كثيرا من ردود الأفعال فى السنوات الماضية ولا يزال.. لفت نظرى هذان الموقفان المتباينان. هناك فجوة كبيرة فرجعت إلى السيرة، ورأيت موقف النبى، محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقف لجنازة يهودى، ويقول لأصحابه «أليست نفسًا». ألم يقرأ أولئك النفر فى القرآن الكريم «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» أم أنهم لم يقرأوا «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»؟! كيف يكون البر والقسط؟ أليست هذه التهنئة هى من أبسط صور البر والقسط؟ رحم الله تعالى ابن قدامة المقدسى، وهو يفسر حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أن الجيران ثلاثة ومنهم الجار غير المسلم.
وفى كتاب «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة المقدسى يقول فيه عن حقوق الجار غير المسلم: «وأما حقوق الجار: فاعلم أن الجوار يقتضى حقًا وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام فيستحق ما يستحقه كل مسلم وزيادة، وجاء فى الحديث: «الْجِيرَانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌ، وَجَارٌ لَهُ حَقّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، فَأَمّا الْجَار الَّذِى لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ ذُو الرَّحِمِ، فَلَهُ حَق الإِسْلامِ، وَحَق الرّحِمِ، وَحَق الْجِوَارِ، وَأَمّا الّذِى لَهُ حَقانِ: فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ، لَهُ حَقّ الإِسْلامِ، وَحَقّ الْجِوَارِ، وَأَمّا الَّذِى لَهُ حَق وَاحِدٌ: فَالْجَارُ الْمُشْرِكُ، لَهُ حَق الْجِوَارِ».
«واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى والرفق، وابتداء الخير، وأن يبدأ جاره بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ويعوده فى المرض، ويعزيه فى المصيبة، ويهنئه فى الفرح، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه فى وضع الخشب على جداره، ولا فى صب الماء فى ميزابه، ولا فى طرح التراب فى فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عوراته، ولا يتسمع عليه كلامه، ويغض طرفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب».
هذا هو رأى ابن قدامة المقدسى، وهو من هو من أئمة الحنابلة. وهو بكل تأكيد أقرب عهدًا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام. وهو أيضًا أكثر فهمًا لروح الإسلام والرسالة العظيمة التى قرأها ونقرؤها فى آية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)..ماذا يقول ياسر برهامى وقيادات حزب النور فيما قاله ابن قدامة المقدسى؟!.
ومن مقدمة كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة الدينورى، ننقل هذه الكلمات البليغة فى حق الناس جميعًا بمن فيهم المشركون: «وهذه عيون الأخبار نظمتها لمغفل التأدب تبصرةً، ولأهل العلم تذكرة، ولسائس الناس ومسوسهم مؤدبًا، وللملوك مستراحًا من كد الجد والتعب... ولم أر صوابًا أن يكون كتابى هذا وقفًا على طالب الدنيا دون طالب الآخرة، ولا على خواص الناس دون عوامهم، ولا على ملوكهم دون سوقتهم، فوفيت كل فريق منهم قسمه.. وأودعته ما يتلاقون به إذا اجتمعوا، ويتكاتبون به إذا افترقوا...».
ثم يقول ابن قتيبة، رحمه الله تعالى: «واعلم أنا لم نزل نتلقط هذه الأحاديث فى الحداثة والاكتهال عمن هو فوقنا فى السن والمعرفة، وعن جلسائنا وإخواننا، ومن كتب الأعاجم وسيرهم، وبلاغات الكتاب فى فصول كتبهم، وعمن هو دوننا، غير مستنكفين أن نأخذ عن الحديث سنًا لحداثته، ولا عن الصغير قدرًا لخساسته، ولا عن الأمَة الوكعاء لجهلها، فضلًا عن غيرها».
ومن أهم ما قاله ابن قتيبة فى هذا المقام: «فإن العلم ضالة المؤمن، من أخذه نفعه، ولن يزرى بالحق أن تسمعه من المشركين، ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين، ولا يضير الحسناءَ أطمارُها، ولا بنات الأصداف أصدافُها، ولا الذهبَ الإبريزَ مخرجُه من كِبا، ومن ترك أخذ الحسن من موضعه أضاع الفرصة، والفرص تمر مر السحاب».
أتساءل أيضا: ما موقف قيادات حزب النور من هذا الكلام العظيم الذى قاله ابن قتيبة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة؟!.. وللحديث صلة، لشرح بعض المعانى القيمة التى وردت فى حديث ابن قدامة المقدسى وابن قتيبة الدينورى، حتى يفهم من يظن أنه يفهم وحتى لا نشوه صورة الإسلام العظيم أو نكذب على الأنبياء والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. وبالله التوفيق.