رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من شهداء الرأى ضد الاستبداد الدينى


الجعد بن درهم شهيد الرأى، لم يرفع سيفا ولم يؤذ أحدا، كان مجرد كاتب له رأى أذاعه وكلمة قالها، كان له مذهب عقلى فى تفسيره للقرآن الكريم، ومن الرواد الذين بنى على بعض أفكارهم من بعد المعتزلة، وكان من أقواله رفض نسب الصفات إلى الله،

حتى لا يشبهه بالإنسان، وقيل إنه رأى أن الله ليس على العرش حقيقة؛ وأن معنى استوى استولى، ومما نسب له قوله بأن القرآن مخلوق، وأنه أنكر أن يكون الله تكلم به حقيقة بحرف وصوت، وأنكر أن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلا، أو كلم موسى تكليما، وكان يرى أن الله سبحانه وتعالى غنى عن الصفات التى وردت فى القرآن الكريم، فمن أجل تنزيه الله، رفض أى صفة لله، وقال إن الله سميع بذاته بصير بذاته واهب بذاته ... إلخ، الأمر كله مجرد رأى يخطئ ويصيب، وظل الجعد يقول أفكاره ويعلنها إلى أن أذاع أن الخلفاء يصفون أنفسهم بصفة من صفة الله، وهى أن الخليفة لا شريك له فى الملك، وهنا حدثت الكارثة الكبرى، ورغم أنه كان مؤدبا لمروان آخر الخلفاء الأمويين، لم يشفع له ذلك، وهاج عليه الشيوخ وأفتوا بقتله، ولأنهم يرون قتله من ضرورات الإيمان، فقد أوعزوا إلى الوالى خالد بن عبد الله القسرى أن يضحى بالجعد يوم عيد الأضحى، وهذا ما حدث، ففى الكوفة وفى صبيحة عيد الأضحى عام 124 هـ جاء خالد القسرى بالجعد فى قيوده، وبعد أن انتهى من الصلاة والخطبة، قال خالد للناس: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا فإنى مضحٍ اليوم بالجعد بن درهم، ونزل عن المنبر فذبحه بيده وأمر بصلبه.

الأمر المؤكد أن الجعد كان مسلما يقول رأيه فى حرية كما أمر الله ورسوله الكريم، ولكن ولأنه تدخل فى السياسة، وربط بين تنزيه الله وتعطيل صفاته، فقد ألقى بظلال شك على خلافة هشام بن عبد الملك، فتحالف الشيوخ مع الولاة على قتله، فأفتى معاصروه بقتله، وأخذ من بعدهم من رددوا فتوى كفر الجعد، فكان أن راح ضحية الاستبداد السياسى بالغطاء الدينى، واليوم يروى أصحاب التيارات المتأسلمة مصرع الجعد بكل الفخر، ويكفرون أمثاله حتى اليوم، ويتهمونهم بالعلمانية والليبرالية واليسارية، ورغم أن كل هذه المصطلحات لا تخرج من الدين، ولكنها تخرجهم من دنيا الشيوخ الذين أفتوا بقتل الجعد وابن المقفع ونجيب محفوظ وفرج فودة والكاتب السودانى محمد طه محمد أحمد وغيرهم، ونختم بأبيات لابن القيم يفتخر فى إيمان وحشى بقتل الجعد فيقول:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالد..القسرى يوم ذبائح القربان

إذا قال إبراهيم ليس خليله..كلا ولا موسى الكليم الداني

شكر الضحية كل صاحب سنة..لله درك من أخى قربان

هذا أحد من راحوا ضحية الاستبداد السياسى تحت الغطاء الدينى، وهناك شبه بين الماضى والحاضر.

■ كاتب