رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملف العلاقات التـركية الإسرائيلية بين الاعـتـذار والقـبـول بالدور الأمريكى


السؤال الذى ينبغى طرحه الآن: هـل ترتبط المصالحة التركية الإسرائيلية بطلب تركيا نشر صواريخ باتريوت على طول حدودها مع سوريا البالغ طولها 800 كيلومتر؟ وهل يؤدى ذلك إلى حماية الأمن القومى التركى؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو التهديد الذى تخشاه تركيا من نظام منهار وجيش منهك؟

تناولت فى مقال سابق فى نفس المكان تحت عـنوان السلوك السياسى للقوى الفاعـلة تجاه المسألـة النوويـة الإيرانية ( رابعـا : إسـرئيــل ) أن الولايات المتحدة تسعى حثيثًا إلى إعادة العـلاقات بين تركيا وإسرائيل، والعـمل عـلى توطـيـد هذه العـلاقات باعـتبارهما محـورى ارتكاز تأمين وتحقيق إستراتيجيتها فى منطـقـة الشرق الأوسط، وما هى إلا أيام معـدودات حتى أعـلن الرئيس الأمريكى عن المكالمة التليفونية التى تمت بين نتنياهو وأردوغان باعـتذار إسرائيل لتركيا عـن مقـتـل تسعة أتراك كانوا على متن السفينة مرمرة، واستعـداد إسرائيل لتقديم تعـويضات لأسر الضحايا، هكذا نجحت الولايات المتحدة فى نزع فتيل التوتر بين أهم دولتين حليفتين لها فى المنطقة حسبما تقتضى مصلحتها القومية، الأمر الذى يبدو معـه أن الولايات المتحدة قـد مكنت تـركيا من امتلاك زمام المبادرة فى صراعـها (الظاهرى) مع إسرائيل، بل امتلاكها لزمام المبادرة فى مسرح الصراع الدائر فى منطقة الشرق الأوسط، وأعـنى به مسرح الحرب الأهلية فى سوريا لإسقاط نظام الأسد وتمكين جماعة الإخوان من الوصول إلى سدة الحكم فى سوريا، والسؤال الذى يتعـين أن يُطرح فى هذا السياق هو ما الذى تستهدفه الولايات المتحدة فى نزع فتيل التوتر بين محـورى ارتكازها فى المنطـقـة؟

يشير الواقع إلى أن الولايات المتحدة تهدف من هذه المصالحة إلى تحقيق عدة أهداف، فهى أولاً تخشى أن تفقد تركيا مثلما فـقـدت إيـران الشاه بعـد الثورة الإسلامية التى كانت تمثل محور ارتكازها الثالث فى المنطقة، ليس فقط لتحقـيـق توازنها الإستراتيجى مع القطب الثانى فى النظام الدولى القديم (الاتحاد السوفيتى) أو القوى العـظمى التى قـد تنشأ مستقبلاً (روسيا الوريث الشرعى للاتحاد السوفيتى أو الصين تنين القرن واحد وعشرين أو كلاهما معا بالتعاون مع حلفائها) بل أيضًا لتحقيق اتزان قواعـد تواجدها بالمنطقة لتأمين مصالحها، خاصة بعـد أن أدركت قرب تطور النظام الدولى أحادى القطبية الذى تحتل فيه المرتبة الأولى وربما الوحيدة فى هيكله العـسكرى، مع هيكله السياسى والاقتصادى القائم عـلى تعـدد الأقطاب ليكون نظامًا ثنائيًا أو متعـددًا غـيـر مستقر إلى أن تتبلور ملامحه، إذ لا يتسنى أن ينتظم النسق الدولى فى ظل هيمنة قوة وحيدة، كما أدركت ثانيًا أنه لا غـنى لها عـن تركيا التى تمثل القاسم المشترك فى أغـلب المخططات الإستراتيجية للقوى العـظمى والكبرى خاصة تلك التى تتعـلق بالتوازنات والتوازنات المضادة إلى أن أصبحت هى الدولة الإسلامية الوحـيـدة فى العـالم التى ترتبط ارتباطًا عـضـويًا بالإستراتيجية الأطلسية بحكم موقعها الجيوإستراتيجى الفريـد وبحكم قـوتـها البـشـريـة والعـسكرية، فـتـركـيا هى الدولة الوحيدة التى تربط بين قارتى آسيا وأوروبـا، وتطل على أربعة بحار هى الـبـحـر المـتـوسـط، والـبـحر الأسود وتتحكم فى بحر مرمرة (مضيقى البوسفور والدردنيل) وبحر إيجة، كما أدركت ثالثًا أن تركيا تعـتبر من أكثر دول الشرق الأوسط فى مؤشر الاستقرار السياسى بحكم التكامل القومى والبعـد الدينى والعـقائدى فتعـتبر تركيا من أقل الدول تعرضًا للأزمات العرقـية والدينية، حيث تعـتبر تركيا من الدول شديدة التجانس، إذ ينحدر شعـبها من أصل واحد ويدين 98% منهم بالإسلام على المذهـب السنى، وهى بذلك تعـتبر من أقل الدول تعرضًا للأزمات العـرقـية والدينية وبالتالى يمكن الارتباط بها والاعـتماد عـليها لفترات طويلة، خاصة أنها تعـتبرالـوجـه المقـبـول لدى جميع الأطراف التى يمكنها تنسيق جميع ملفات الأزمات والنزاعات التى تسبب عـدم استقرار منطقة الشرق الأوسط.

وترتيبًا على ما تقدم فإن السؤال الذى ينبغى طرحه الآن: هـل ترتبط المصالحة التركية الإسرائيلية بطلب تركيا نشر صواريخ باتريوت على طول حدودها مع سوريا البالغ طولها 800 كيلومتر؟ وهل يؤدى ذلك إلى حماية الأمن القومى التركى؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو التهديد الذى تخشاه تركيا من نظام منهار وجيش منهك؟ أم أن هناك أهدافًا أخرى يلزم تحقيقها من نشر هذه الصواريخ؟

تشير حقائق الموقف الإستراتيجى التركى السورى إلى أن أخشى ما تخشاه تركيا هو تصدير الإرهاب إلى أراضيها، إذ يكرس نظام الأسد جهوده لإرباك القيادة السياسية التركية بالسعـى إلى عـرقـلة معـدلات النمو الاقتصادى المتصاعـد الذى يعـتبر جوهر التخطيط الإستراتيجى التركى، وتصدير الصراع العـرقى بتأليب الأكراد وإحياء الخلاف العـقائدى للعـلويين والشيعة الجعـفـريـة مع السنة فى مناطق الإسكندرونة وأنطاكية السورية الأصل وضمتها فرنسا إلى تركيا فى ثلاثينيات القرن الماضى، كما تخشى تركيا من تعـاظم العبء الأمنى والإدارى والاقتصادى الملقى عـلى عاتقها من قضية اللاجئين السوريين، هذا ما تخشاه تركيا من سوريا، فما الذى تخشاه تركيا من إيران الحليف الإستراتيجى التى تشاركها الحدود؟ أغـلب الظن أن إيـران لن تضحى بمصالحها مع تركيا خاصة أن منطقة القوقاز الحدودية الفسيحة تشهد حاليًا تبادل العلاقات الاقتصادية عـلى أوسع نطاق حتى إن مركبات النقل الثقيل والحافلات تجىء وتذهب من كل حدب وصوب فى تركيا وإيران فى رحلات تكاد لا تنقطع ليلاً ونهارًا، كما تشير الحقائق إلى التباين الكبير بين تركيا وسوريا فى جميع مؤشرات توازن القوى تميل لصالح تركيا خاصة فى مؤشر حجم وكفاءة القوات المسلحة، إذ يمكن ملاحظة أن وعاء التجنيد القادر على الإمداد التعـبئة لتركيا يبلغ ثلاثة أضعاف الوعاء السورى، وأن القوات التركية تأتى تالية للقوات الأمريكية فى حلف الناتو من حيث الحجم والكفاءة، وأنها تمتلك حجمًا من طائرات القتال المتطورة تتفوق عـلى نظيرتها السورية كمًا ونوعًا، فهى تمتلك أكثر من 800 طائرة قتال فى قواتها الجوية من طرازات إف4 ـ إف 15 ـ إف16 ـ إف104، وتمتلك حولى 200 طائرة لقوات الدفاع الجوى وأكثر من 30 طائرة للقوات البحرية، بالإضافة إلى امتلاكها قواعـد جوية ومطارات متطورة تضمن تمركز قواتها الجوية عـلى نحو يمكنها من تنفيذ مهماتها بكفاءة تـامة، فهـل تهدف عـملية نشر الصواريخ حقًا إلى حماية الأمن القومى التركى، أم أن هناك أهدافًا أخرى من نشرها؟.

صفوة القول فإن عملية نشر صواريخ حلف الناتو عـلى طول الحدود التركية مع سوريا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقرار الكونجرس الأمريكى بشأن رفع حظر تصدير السلاح لإمداد المعارضة السورية بالسلاح بما يمكنها من مواجهة قوات الأسد، كما يرتبط بقرار كل من فرنسا وبريطانيا من إمداد الجيش السورى الحر بالسلاح حتى إذا ما تم ذلك، أحدثت شبكة الصواريخ منطقة حظر جوى على غـرار ما تم فى ليبيا لتحييد الطيران السورى وحرمان قـوات الأسد من المعاونة الجوية، حتى يتم إسقاط نظام الأسد وتسليم سوريا لجماعة الإخوان لضمان أمن إسرائيل من الشمال مثلما ضمنته من الجنوب عـندما مكنت الجماعة من حكم مصـر وفقًا للتفاهمات التى عـقدت معـها، وبذلك تكتمل المؤامرة الأمريكية بهيمنة تيار الإسلام السياسى على دول الربيع العـربى، وهو التيار الكفيل بهدم أركان الدول وإحداث الفوضى التى تسعى إليها الولايات المتحدة، فإذا كان هذا هو الدور الرئيسى للولايات المتحدة، فما هو دور إسرائيل بعـد أن قدمت الاعـتـذار لتركيا وتعـهدت بدفع تعـويضات للضحايا؟ وهل انقطعـت العلاقات التركية الإسرائيلية يوما؟ وهو ما سيتم تناوله فى الأسبوع القادم بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.