رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كائنات الوهج الإلكترونى !


قطعت شبكة الإنترنت منذ إنشائها فى أمريكا عام 1969 رحلة طويلة لتصل بدءاً من عام 1992 إلى مصر.

قطعت شبكة الإنترنت منذ إنشائها فى أمريكا عام 1969 رحلة طويلة لتصل بدءاً من عام 1992 إلى مصر. ووفقاً لتقرير الاتحاد الدولى للاتصالات فإن أكثر من ربع سكان مصر الآن – أى حوالى 22 مليون إنسان- يستخدمون الإنترنت الذى يشبه فضاء واسعاً شد الكثيرون رحالهم إليه بدوافع مختلفة. بعضهم تسوقه أشواق المحبة والوحدة إلى تلمس الدفء الإنسانى لدى الآخرين حتى لو كان أولئك الآخرون كائنات من وهج إلكترونى. فى صناديق الدردشة تولد قصص الحب رسالة بعد أخرى، وصورة بعد صورة. معظم تلك القصص تذوب ما إن تخرج من الحضانة الإلكترونية إلى هواء الحياة الحار. ومع ذلك تظل محاولات الخروج من الوحدة هذه المصحوبة بلهفة الروح أجمل ما فى ذلك الفضاء. لكن هناك رحالة من نوع آخر يبحرون بقواربهم بحثا عن الثروة والذهب كما كان يفعل قراصنة العصور الوسطى.

محتالون تتنوع أساليبهم، بدءاً من تلك التى تبعث برسائل الاستغاثة إلى كل من هب ودب بعنوان «عائشة أختك فى الله» وتحكى لك قصة طلاقها فى زيمبابوى من زوجها غليظ القلب، وتذرف دموعها فى كلماتها مستنجدة بك أن ترسل إليها مائة دولار وأن تنقذها لأنك ـ على حد قولها ـ «إنسان عربى أصيل من نسل عنترة بن شداد وفارس لن يتخلى عن عائشة ساعة الكرب»! ويتلقى معظمنا تقريبا رسائل تعلن لكل واحد أنه فاز بنصف مليون دولار، وما عليه سوى تعبئة استمارة بيانات وإرسالها مرفقة بعشرين دولاراً إلى العنوان الفلانى! وتظل عربات المهاجرين تقطع الفضاء الإلكترونى الشاسع بحثا عن الثروة والذهب. وهم لا يتورعون عن اختراق البريد الإلكترونى لأى شخص، ويبعثون منه برسائل إلى أصدقائه يدعون فيها أن صاحب البريد فى بلد أجنبى وتمت سرقته وبحاجة للمال لحين عودته إلى بلده. وإذا نحينا جانبا قصة عائشة وكل ألوان الاحتيال، فإن الإنترنت فتح الأبواب على مصراعيها أمام هواة الكتابة والأدب لينشروا كل ما يعن لهم من خواطر وملاحظات أدبية بسرعة وسهولة مذهلة وبدون كلفة تقريبا وبغير كل شروط النشر الورقى وما يحتاجه من علاقات. واستطاع الإنترنت أن يحرر الكتابة من صيغ تقليدية كثيرة وأن يضخ كلمات ومصطلحات جديدة إلى اللغة، كما ظهرت صحف ومواقع الكترونية بلا نهاية حتى شاع الحديث أولا عن أن الصحافة الالكترونية ستقضى على الصحافة الورقية. ويذكرنا ذلك بحديث جرى فى حينه عن أن السينما ستقضى على المسرح، وأن الفيديو سيقضى على السينما، ومع ظهور الأطباق اللاقطة أكد الكثيرون أنها ستقضى على المسرح والسينما والفيديو! لكن الفروق النوعية فى طبيعة تلك الوسائل جعلتها تتعايش فى سلام دون أن تفترس واحدة منها الأخرى.

وقد انقضى على دخول النت إلى مصر نحو عشرين عاما ومازال الناس يقفون صباحاً ليشتروا الجرائد الورقية منتبهين إلى ملمسها ورائحة طباعتها. إلا أن الولع بالاكتشافات الجديدة مضى إلى حد الكلام عن تأثير الإنترنت فى الثورة وفى الأدب وطبيعته. وذهب البعض إلى اختراع أن الثورة قد تبزغ من الحروف الالكترونية وليس من مشاق الحياة الاقتصادية ونضال البشر. وفى المجال الأدبى نشر كاتب يدعى محمد سناجلة رواية على النت باعتبارها «أول رواية عربية رقمية وجزم البعض بأننا نشهد فجر جنس جديد فى الرواية» يستخدم للمرة الأولى تقنيات رقمية وفن الجرافيك ليقدم لنا رواية بصرية لم تعرفها الرواية العربية من قبل! وبهذا المعيار يتعين علينا أن نقول إن الرواية مرت بمرحلة نجيب محفوظ ويحى حقى وكافكا وفوكنر وغيرهم، وهى مرحلة غير رقمية، ثم مرحلة سناجلة الرقمية!

ويتضمن كل هذا مبالغة شديدة فيما يخص التأثير الناجم من تغيير الوسيلة من النشر الورقى إلى النشر الإلكترونى. فوسائل النشر الجديدة لن تبدل من طبيعة البناء الروائى، ومشكلاته، وقضايا الرواية، بل ولن تبدل الوسائل الجديدة من أدوات العمل الأدبى من سرد وتحليل ووصف وبناء العقدة الفنية وغير ذلك. والإنترنت أيضا لا يصنع ثورة، إلا إذا كان التليفون بصفته اختراعا عبقريا للتواصل فى زمن ما، كان قادراً فى وقته على إحداث ثورة. إلا أن كل مبالغة تنطوى على جزء صغير من الحقيقة. والمبالغة فى دور الإنترنت مستمدة من حقيقة أن الشبكة ساعدت على خلق لغة سهلة ومفهومة وأكثر عصرية وأقرب للغة الحياة اليومية، وساعدت على نبذ الكلمات المهجورة، كما أشاع الإنترنت ما يمكن تسميته بديمقراطية التعبير، فلم تعد الكتابة مقصورة على الأدباء بالمعنى المتعارف عليه لكلمة أدباء، فقد صار بوسع كل إنسان أن يعبر عن نفسه وأفكاره دون أن يتقيد بأصول صنعة الكتابة التى تعوق الكثيرين عن التعبير عن أنفسهم. أصبحت الكتابة للجميع، وأصبح من حق الجميع أن يسجل تعليقاته العابرة والغاضبة والسعيدة فى الشأن السياسى والاجتماعى. وبقدر ما تصبح الكتابة «مشاعاً»، فلابد لذلك أن يطور اللغة ويجعلها أسهل وربما أدق أيضا.

لكن كل تلك الانجازات لا تصلح لكى تكون أساساً لخلق أنواع أدبية جديدة، أو لتغيير قوانين الصراع الاجتماعى والثورات التى تختمر ليس فى الفضاء الإلكترونى لكن فى الشعور بالظلم وضرورة العدالة الاجتماعية. والأحاديث المبالغ فيها عن دور الإنترنت تذكر فقط بأحاديث سابقة طويلة عن الثورة التكنولوجية التى حولت العلم إلى قوة منتجة مباشرة.

وحينذاك اكتسبت تلك الثورة طابعا عالميا لأنها شملت العالم كله بتأثيرها، ومن ثم دار الحديث عن انتفاء الحاجة إلى الثورة الاجتماعية، لأننا نمضى نحو مجتمع ما بعد الصناعى يعم فيه الخير على الجميع دون تغيير الأوضاع الاقتصادية للمجتمع. إنه مجتمع للخير العميم وعالم صناعى واحد! وبنفس المنطق الذى بالغ فى دور التكنولوجيا، والإنترنت، وثورة الاتصالات، تمت المبالغة فى موضوع « الكوكبة « أو العولمة التى ستحيل الكرة الأرضية إلى قرية واحدة. لكننا مازلنا بعد عقد كامل على ضجيج العولمة نرى كيف أنها لم تبدل شيئاً من واقع الفقر المدقع الذى تحيا فى ظله بلدان العالم الثالث، ولا غيرت من حقيقة الثراء الفاحش فى الجانب الآخر.

فى كل ذلك تم ويتم تصوير الوسائل على أنها الموضوع، فالثورة التكنولوجية تصبح هى العدالة، والإنترنت كوسيلة اتصال يصبح هو الأدب، والعولمة تصبح حلم القرية الواحدة التى يعم الخير فيها على الجميع. وكل تلك مجرد وسائل تساعد على بلوغ المجتمع المنشود، لكنها لا تنفى قوانين الصراع والثورة التى تحقق بها المجتمعات أمانيها. وحين يصور الإنسان للآخرين أن الوسيلة هى الهدف وقد تحقق، فإنه ينضم بوعى أو بدون وعى إلى الذين يؤكدون لك فى رسائلهم وجود نصف مليار دولار فى بنك ما وأنهم فقط بحاجة لمساعدتك يمكن بعدها اقتسام المبلغ، وحين يقول الإنسان للآخرين إن الصنارة هى السمكة، فإنه ينضم إلى عائشة الباكية التى تذرف دموع التماسيح مستنجدة بك لإنقاذها بإرسال مائة دولار لأنك على حد قولها « فارس من نسل ابن شداد لن تتخلى عن عائشة ساعة الكرب»!

■ كاتب وأديب