رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمق صغير لشعب كبير


فى مطلع 2010 نشر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار تقريرا بعنوان «ماذا يقرأ المصريون؟» جاء فيه أن 88% من الأسر المصرية لا يقرأ أى من أفرادها أى كتب.

فى فبراير 1923 كتب عباس العقاد بجريدة «البلاغ» يقول «نشرت زميلتنا الأخبار فى 14 يناير الماضى خبرا جاء فيه أن مسجونا يخدم فى حديقة أحد الموظفين الإنجليز أكل «طماطمة»واحدة ملقاة، فما كان من السيدة زوجة الموظف الإنجليزى وقد رأت المسجون إلا أن أمرت الأونباشى الحارس أن يظل يضرب المسجون بالكرباج حتى تكلفه أن يكف عن ضربه». انقضى تسعون عاما على حادثة الطماطمة التى جلد بسببها مسجون جائع فظلوا يجلدونه – لأنه اشتهى حبة طماطم واحدة – فى انتظار أن تتعطف مواطنة إنجليزية وتقول يكفى هذا. امرأة شابة جاءت من وراء البحار بصحبة زوجها تظن فى قرارة نفسها أن من حقها بداهة أن تأمر بجلد إنسان لا تعرف لغته ولا ثقافته ولا همومه ولا تاريخ بلاده العريق، لمجرد أن زوجها موظف فى ترسانة بواخر الاستعمار العسكرية. وبعد نحو أربعين عاما يكتب يوسف إدريس روايته «الحرام» وينشرها عام 1959 فى الكتاب الفضى، ليحكى لنا قصة امرأة من عمال التراحيل باعت نفسها من أجل «جذر بطاطا» لتسد به رمق زوجها المريض العاطل. ويقال فى اللغة العربية: سد الرجل رمق أخاه أى أطعمه فأنقذه من الموت جوعا، فالرمق هو الخيط الفاصل بين الحياة والموت، تسده حبة طماطم زمن الاحتلال الإنجليزى، أو جذر بطاطا عهد الاستقلال. وقبل الإطاحة بمبارك بعامين نشرت إحدى الصحف أن طفلة فى التاسعة من عمرها اشترت دون علم والدها كيس بطاطس فظل يضربها بعصا غليظة حتى توفيت لأن ثمن الكيس الذى اشتهته الطفلة فوق طاقته. هكذا بعد قرن تقريبا من كفاح الشعب ما زالت الفئات المطحونة من عمال وفلاحين وموظفين وغيرها لاتجد ما تسد به رمقها، ولو كان أقل القليل. هذا التاريخ الممتد للجموع التى أهدر حقها فى حبة طماطم أو جذر بطاطا أو كيس بطاطس، مازال يكتب صفحات جديدة فى حياتنا، ففى أوائل فبراير الحالى قام المواطن حسام فؤاد 43 سنة، دبلوم صنايع، بشنق نفسه على سور أرض الملاعب المواجه لمبنى ديوان محافظة أسيوط بعد أن طحنته ضائقة مالية شديدة وفقد الأمل فى العثور على عمل. الجوع هو الحقيقة الكبرى التى إذا غابت عن أى ثورة، وأى قوى سياسية، غابت الثورة ذاتها ، وأصبحت لغوا مستمرا حول «دستور»، و«نزاهة انتخابية»، و«صناديق انتخابات». الجوع إلى الخبز، وإلى العلم، وإلى الحرية، وإلى الكرامة، والمسكن، والعلاج. وحسب تقرير التنمية التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة فى 2009 فإن عدد الفقراء فى مصر وفقا للحد الأعلى لخط الفقر فى مصر «2.7 دولار يوميا» ارتفعً ليصل إلى نحو ثلاثين مليون مواطن ينفق الفرد منهم يوميا 15 جنيهاً فقط على جميع احتياجاته. وحين تقول «ثلاثين مليون مواطن» فأنت تتحدث عن شعب بأكمله يفوق تعداد سكان الأردن ولبنان وقطر والبحرين والكويت والإمارات مجتمعة. أمة كاملة مستقلة، لا ينقصها سوى نشيدها وعلم شعاره «لا نجد ما يسد الرمق». وهى أمة لا تأكل، ويسكن منها مليون ونصف المليون إنسان فى المقابر مع الموتى، بينما توجد أكثر من 8 ملايين شقة مغلقة! أمة لا تأكل ولا تسكن ولا تقرأ وفى مطلع 2010 نشر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار تقريرا بعنوان «ماذا يقرأ المصريون؟» جاء فيه أن 88% من الأسر المصرية لا يقرأ أى من أفرادها أى كتب باستثناء الكتب المدرسية، وأن 76% من الأسر لا تشترى أى صحف على الإطلاق! السبب الرئيسى فى ذلك - كما يشير التقرير- التدهور الحاد لمستوى الدخول. ويكاد تاريخ مصر فى حقيقته أن يكون تاريخ الصراع من أجل «سد الرمق». ولعل الشعب المصرى هو الشعب الوحيد فى العالم الذى يطلق على الخبز كلمة «عيش» أى حياة، لأنه يعتمد أساسا على رغيف الخبز لمواصلة البقاء. وأحيانا تتطلع إلى إنسان فقير فى الشارع، وتسأل نفسك: ما الذى أكله هذا الإنسان طوال حياته كلها؟ ماعدا الفول والبصل؟ ما الذى لبسه هذا الإنسان فى حياته كلها؟ ما الذى ومن الذى أحبه هذا الشخص طوال عمره؟ ما الذى تعلمه؟ ما المتع الصغيرة التى كانت متاحة إليه؟. لا شىء. حياة تمر أشبه بمدة عقوبة ينبغى للمرء أن يتحملها صاغرا حتى تنتهى. وعندما تغدو الحياة تدريبا على الموت، فلا بد أن يثور الناس، ولابد أن تخرج الشوارع السفلية والأزقة والقرى متمردة، لأنه لم يعد لدى أحد ما يخسره سوى الموت. فإذا انتفض الناس حصدهم رصاص الحكم الذى جاءوا به عبر انتخابات حرة نزيهة، وتصيدهم قناصو ديمقراطية الإخوان من أعالى سطوح البيوت. وقد انقضى نحو القرن منذ أن نشر عباس العقاد ملاحظته إلى يومنا هذا، ومازال السؤال قائما: حبة الطماطم. جذر البطاطا. كيس البطاطس. ينتفض الناس فى كل مكان ضد مرسى والإخوان. وعندما انهارت فى طوخ فى 20 فبراير الحالى بيارة ماء وتوفى تسعة أفراد، احتشد الأهالى وانطلقوا يطالبون بإسقاط مرسى. أصبحت أقل عطسة عابرة تكفى للمطالبة بإسقاط مرسى. وإذا انتفض الشعب ألقموه الرصاص بدلا من الخبز. وفى إحصائية صدرت مؤخرا عن مصلحة الطب الشرعى يتبين لنا أن عدد الشهداء فى عهد محمد مرسى بلغ مائة شهيد، كان فى مقدمتهم «جيكا» عصفور الثورة وأول كلمة فى دفتر الشهداء الجدد. وقد تنوعت أشكال الانتفاض والاحتجاج الشعبى ضد الفاشية بدءا بالمظاهرات إلى أشكال محدودة من العصيان المدنى، مثل قطع السكك الحديدية، وتعطيل عمل المرافق، وصولا إلى إعلان بورسعيد ومن بعدها الإسماعيلية العصيان المدنى الذى نشأ تاريخيا كوسيلة للضغط على النظم دون اللجوء للعنف بهدف تغيير وضع أو قانون. ومن ثم فإن العصيان المدنى وسيلة لإنهاك النظام وإجباره على الإنصات لمطالب الناس. ولعل السمة الأهم لذلك العصيان أنه يمثل إلى حد كبير محاولة التوصل لتصور مشترك للعدالة. التعريف الأدق أنها رفض الخضوع فى ظروف محددة يرفضها الإنسان. ولعل التعريف الأدق للعصيان المدنى أنه «رفض الخضوع». وكان الزعيم الهندى غاندى أول من لجأ إلى تلك الوسيلة معتمدا على مفهوم صاغه الأمريكى «هنرى ثور»و وطرحه فى محاضرات ألقاها عام 1849، ثم نشرت المحاضرات عام 1866، بعد موت ثورو بأربع سنوات. لهذا كتب غاندى عام 1942 فى صحيفة «الرأى الهندى» التى كان يصدرها مقالا بعنوان «نداء للأصدقاء الأمريكان» يقول فيه «لقد أعطيتمونى معلما فى شخص هنرى ثورو الذى قدم لى بمقاله العصيان المدنى تأكيدا علميا لما كنت أقوم به». وفيما بعد لجأ مارتن لوثر كينج إلى العصيان المدنى الجزئى عام 1955 لاجبار الحكومة على الاستجابة لمطالب السود. ثم نجح العصيان المدنى فى جنوب أفريقيا فى الحد من ظاهرة التمييز العنصرى. السؤال هو: أى أشكال العصيان المدنى قد ينجح لدينا؟ العصيان الجزئى؟ أم الكلى؟ الاعتماد على امتناع الموظفين عن أداء أعمالهم ورفض سداد مستحقات الدولة من الضرائب وفواتير الكهرباء والغاز وغلق المحال وصولا إلى شل الحياة بالكامل؟. فى كل الحالات فإن الأمل معقود على أن يكون العصيان خطوة فى إطار خطة عامة تضع فى القلب منها حقيقة أن لدينا أمة كاملة من الفقراء يريدون مايسدون به رمقهم. يريدون مواصلة البقاء على قيد الحياة. الأمر المدهش والمؤلم أن الشعب عندنا كما يقال عادة «يرضى بقليله» لكن ماذا يفعل إن سلبوه حتى ذلك القليل؟

■ أديب وكاتب