رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معـضلة التعـليم فى مصـر.. وتأثيرها فى الأمن القومى


ألم يأن للمصريين أن يجمعـوا أمرهم لعـقـد مؤتمر قومى يضم داخله خبراء التعـليم دون التقـيـد بالتوجه السياسى أو الحزبى أو الدينى والطائفى والعـقائدى، لوضع سياسة تعـليمية متطورة ذات أهداف قومية تكـون أساسا لوضع خطة استراتيجية بعـيـدة المدى.

تهدف عـملية تنمية الموارد البشرية إلى إطلاق طاقات القوة البشرية فى مجال الأداء عموما، وإزالة المعـوقات التى تعـرقـل عـملية الإعـداد الجيد للقـوة البشرية فى الدولة تعـليميا وتدريبيا وتـثـقـيـفـيا وصحيا ومعـنويا، ثم تنسيق وتوجيه الجهد البشرى نحو تحقـيـق أهداف وغايات الدولة بأعـلى عـائـد، فالتنمية البشرية إذن لا تحدث من فراغ ولا تحدث تلقائيا، ولكنها تحدث فقط بالارتقاء بالإنسان والاستخدام الرشيد لطاقاته لتلبية الحاجـات الأساسية للدولة بما يؤدى إلى تحقيق المصلحة القـومية العليا للدولة، فإذا كانت التنمية من صنع الإنسان، فإن مجملها ونتائجها تكون لصالح الدولة، وبالتالى فإنه من الطبيعى أن تقاس المقدرة الاجتماعية للدولة بمدى تحقيق التنمية البشرية فى القطاعات المختلفة التعـليم والصحة، وعلى ذلك يكون من الصعـب إن لم يكن من المستحيل نشأة وارتقاء المجتمعات والشعـوب دون تعليم الإنسان، ولذلك كان تقدير العليم الخبير أن تكون أول آية تُنـزَل على رسوله الكريم «اقرأ»، إلا أنه يتعـين عـلينا فى البدايـة أن نفرق بين عمليتى التعـلـيم والتعـلم، فبالرغـم من كونهما عـمليتين أساسيتين متكاملتين مستمرتين، تؤثر وتتأثر كل منهما بالأخرى، وبالرغم من أنهما تعـملان معـا عـلى تشكيل وصياغة شخصية الإنسان، حيث تصاغ شخصيته مما تعـلمه من الآخرين ومما اكتسبته بنفسه ولنفسه من معـرفة، إلا أنهما يختلفان فى المفهوم، إذ يكمن مفهـوم التعـليم فى كونه عـملية مؤسسية منتظمة تقع فى مدى زمنى محدد وترتبط بمناهج معـينة وتكون المبادرة فى تنظيم وتنفيذ هـذه العـملية فى يـد المعـلم، أما عـملـية التعـلم فيكمن جوهرها فى أنها عـملية معـرفـية يكتسبها الإنسان تلقائيا من تجاربه وتجارب الآخرين وممن يقابـله ومما يصادفـه من تفاعلات، حيث يمكن إيجاز عـملية التعـلم فى أنها قدرة الإنسان عـلى اكتساب المعـرفة بنفسه واستخلاصها من الظروف التى تحيط به، والمتغـيـرات التى تصادفـه، والتجارب التى يمر بها هو أو الآخرون، والسؤال الذى ينبغى طرحه الآن هو: هـل يمكن أن تنطبق هذه المفاهيم عـلى الـتعـلم والتعـليم بجميع مستوياته فى مصر خلال العـقـود الخمسة الأخيـرة من القرن الماضى وحتى الآن؟

للإجابـة عـن هـذا السؤال ينبغى إلقاء الضوء عـلى أسلوب التعـليم والتعـلم فى الماضى الذى كان يبدأ فى المنزل الذى ينشأ فيه الطفـل عـن طريق المحاكاة والتقليد والتلقين بواسطة الأبوين والإخـوة الأكبر، ثم يتكامل مع الكتاتيب التى كانت منتشرة فى ربوع الأمة حتى فى نجوعـها وقراها وكان الآباء يحرصون عـلى إرسال أبنائهم إلى هذه الكتاتيب فيتعـلمون القراءة والكتابة ومبادئ النحو والحساب وحفظ بعـض آيــات الكتاب الكريم، وكانت هذه الكتاتيب تنهج نهج التربية القومية، حيث كان الأطفال يستمرون فيها حتى سن الالتحاق بالمدارس الابتدائية فيكونون مستعـدين لاستقبال المزيد من التعـليم، حتى أولئك الذين تمنعـهم ظروفهم من الالتحاق بالمدارس الابتدائية كانوا يستمرون فى الكتاتيب حتى سن البلوغ ليتلقـوا المزيـد من التعليم والقراءة والكتابة والنحو والحساب وحفظ القرآن الكريم أو عـلى الأقل بعـض أجزائه خاصة جزء «عـم»، فكانت هذه الكتاتيب تمنع ظاهرة «التسرب من التعـليم»، وهو ما لم تتمكن منه المدارس الحديثة التى نشأت كبديل للكتاتيب لتعليم المرحلة الأولى المقابلة لها، مما أدى إلى ارتباك العـملية التعـليمية فى هذه المرحلة المهمة، ومن مظاهر ارتباك العـملية التعـليمية فى هذه المرحلة المهمة فى بناء الإنسان المصرى، هو تعـدد وتنوع المسميات التى أُطلقت على هـذه المرحلة التعليمية التى تعـد أساسية لبناء الشخصية المصرية «مرحلة التعـليم الأساسى ـ مرحلة التعـليم الإلزامى ـ مرحلة التعـليم الأولى» وكثرة أنواع المدارس التى تقوم عـلى تنفيذها «المدارس الحكومية أو المدارس الخاصة، أو مدارس اللغات أو المدارس الأجنبية» حتى فقـدت هـذه المرحلة هويتها وأهميتها ودورها، إذ تعـمل هذه المرحلة على تـنمية قيمة العـلم والتفكير لدى الطفل، وتقويم سلوكه وآدابه، وتكوين إرادته وتعـتبر البداية الحقيقية لثقافته، لذلك تهتم الدول المتقدمة بهذه المرحلة السنية والتعـليمية، فتخصص لها أفضل المدرسين والعـلماء أداء وأكثرهم خبـرة، وأحسنهم أخلاقا حتى يكونوا قدوة لأطفالها بما يؤدى إلى تراكم المعـرفة، وتعـميق السلوك السوى، وتعـظيم القيم، وهو ما يتعارض مع السياسة التعليمية فى مصر التى يسودها الارتباك فى هذه المرحلة التعليمية المهمة، إذ تمثل السنة الضائعة وما نتج عنها فيما يُعرف بالدفعة المزدوجة نموذجا لقمة الارتباك فى السياسة التعليمية، فإذا كانت هـذه المرحلة قد سادها الارتباك، فكيف نصف المراحـل التعليمية التالية لها؟

فى الواقع فقد تصدرت قضية التعـليم فى المرحلة قبل الجامعية القضايا الاجتماعـية، فقد عُقدت المؤتمرات والندوات وأجريت الدراسات والبحوث العلمية لتطوير السياسات التعليمية، خاصة فيما يتعلق بتوصيف المحتوى العـلمى والفكرى للمقررات، وكيفية معالجة تضخم المناهج، ومعالجة الكثافات العالية جدا فى الفصول ومشكلات أجور المعـلميـن، ومعـضلة الدروس الخصوصية وإهـمـال التعليم المهنى والفنى، ومعالجة البيروقراطية فى الإدارات التعـليمية، وتطويــر المـنشـآت التعـليمية ومشكلة مدة الدراسة فى الثانوية العامة بين الإبقاء أو الإلغـاء، ومشكلة مجانية التعـليم بين الإبقاء عـليها أو الترشيد أو الإلغاء، لكن الأهم هو غـياب الدراسات والأبحاث العـلمية الجادة التى يمكنها معالجة أسلوب الارتباط والاعـتماد المتبادل بين السياسات التعليمية وخطط التنمية الاقتصادية للدولة بما يحدث الاتساق مع سوق العـمل، تلك كانت أبرز سلبيات السياسة التعـليمية لمرحلة ما قـبـل التعـلـيـم الجامعى.

أما مرحلة التعليم الجامعى فقد تعـددت وتعارضت الآراء حول ما إذا كانت الدولة قد توسعـت فى التعـليم الجامعى إلى حد الإفراط، أم حافظت عـلى المعـدلات العالمية لهذه المرحلة التعـليمية، إذ يشير الواقع إلى أن الدولة قد أفرطت إفراطا كبيرا فى هذا النوع من التعـليم أدى إلى ارتفاع معـدلات البطالة إلى الحد الذى يقبل فيه خريج الجامعـة أى عمل قد يتناقض مع مؤهله الدراسى، وإلى حد تظاهر حاملى الدرجات العـلمية العالية «ماجستير ـ دكتوراه» أمام منزل رئيس الوزراء مطالبين بتعـيينهم، وبالرغم من هذا الإفراط وارتفاع معدلات البطالة بين خريجى الجامعات فقد زادت أعـداد الجامعـات بإصدار التراخيص للجامعات والمعاهد العليا الأهلية والأجنبية.

وفى اعـتقادى فإن أسوأ ما ارتُكـب من جرائم فى حق المجـتمع من السياسات التعـليـميـة الـتى مازالت قائمة هى عدم قـدرة الـدولة فى الـقـضـاء عـلى الأمـيـة والـتـسـرب مـن التعـلـيـم، والقضاء عـلى معـضلـة الـدروس الخصوصية، والـتوسع فى الـتعـليـم الأجنبى بجميع مـسـتوياته دون الإشراف عليه من الوزارة الـمعـنية، وعـدم إدراك المسئولين بمدى الارتباط الكامل بين التعـليم والتنمية الـشاملة لمصـر واعـتباره إحدى الأدوات الرئيسية لتحقـيـق الاستـقـرار وحـفـظ وصيـانـة الأمـن القـومى المصرى، حيث أصبـح التنافـس فى أداء جـمـيع الكـوادر هـو الـسمة الأساسية الـبـارزة للتمـيـز فى حركية جميع مؤسسات ومنظمات وهـيـئـات الـدولـة بقـطاعـيها الحكومى والخاص، وفى جـميـع المجالات السياسيـة والاقـتصاديـة والعـسكـريـة والاجـتـماعـيـة، ويعـتمـد مؤشـر التنافسيـة عـلى مـدى كـفـاءة نـظـم التعـلـيـم فى جـمـيـع مراحـلـه الـذى تحصَل عـليـه كـوادر هـذه المؤسسات وتلك المنظمات والهيئات، وفى غـياب التنافسيـة كما هـو حادث الآن فـقـد أصبح أداء الدولة كـله باهـتـا ودون جدوى، فهل يمكن إدراك مدى أهمية التعليم للأمن القومى المصرى؟

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.